فقه الحياة

آلية السماح بالرحيل لدى هاوكينز

إنه ببساطة يعني السماح له أن يكون هنا والتركيز على التخلص من الطاقة التي تكمن خلفه.

ديفيد هاوكينز (١٩٢٧م-٢٠١٢م) هو دكتور في الطب والفلسفة، يعرف بأنه باحث في مجال الوعي، له العديد من المحاضرات والكتب، مثل (الأنا الواقعية والذاتية)، (القوة مقابل الإكراه)، (العلاج والشفاء)، ومن أبرزها كتابه (السماح بالرحيل) والذي قدمته إلى المكتبة العربية الأستاذة (أرجوان بنت سليمان).

يشير (هاوكينز) في كتابه (السماح بالرحيل) إلى أننا نحمل على عاتقنا تراكمات من المشاعر والسلوك والاعتقادات السلبية، وهذا الضغط المتراكم يجعلنا بائسين، وهو مصدر للكثير من الأمراض والمشكلات التي تواجهنا، فنحن نستسلم لهذه السلبيات ونفسرها بأنها “حالة إنسانية”، ونسعى منها بطرق لا تعد ولا تحصى.

فيمضي الإنسان العادي حياته في محاولة تجنب فوضى مشاعر الخوف من الألم والعذاب والفرار منها، أما مشاعر حب الذات فهي مهددة دوما على الصعيدين الداخلي والخارجي.

ويرى (هاوكينز):

أن السبب وراء الخوف من هذه المشاعر، لأننا لا نملك آلية واعية يمكننا من خلالها أن نتعامل مع هذه المشاعر إذا ما سمحنا لها أن تظهر داخلنا. ولأننا نخشى مواجهة هذه المشاعر فإنها تتراكم حتى نبدأ نتطلع للموت خفية كي ننهي كل هذا الألم.

ويضيف قائلاً:

ليست الأفكار التي تؤلمنا ولا الحقائق، ولكنها المشاعر التي تصاحبهم، فالأفكار بحد ذاتها غير مؤلمة، إنها المشاعر الكامنة خلفها!


 يذكر (هاوكينز) أن الإنسان عادةً ما يلجأ إلى ثلاثة طرق ذهنية في التعامل مع المشاعر، وهي: 

١. القمع والكبت:

هاتان الطريقتان من أكثر الطرق استخدامًا فمن خلالهما ندفن مشاعرنا ونضعها جانبًا، يحدث الكبت بلاوعي أما القمع فبوعي، فنحن لا نود أن نزعج أنفسنا بمشاعرنا، فضلا عن أننا لا نعرف ماذا بإمكاننا أن نفعل غير ذلك.

نعاني منها تقريبًا ونحاول أن نستمر بالحياة بقدر الإمكان، والمشاعر التي نختار أن نقمعها أو نكبتها تتوافق مع برمجيات بالوعي واللاوعي فنحملها بداخلنا بحسب العرف الاجتماعي والبيئة الأسرية، فتظهر المشاعر المقموعة لاحقًا على هيئة انفعال ومزاجية وتوتر في العضلات والرقبة والظهر، وصداع ومغص حاد واضطرابات في الدورة الشهرية والتهاب قولون وعسر هضم وأرق وارتفاع ضغط الدم وحساسية وحالات جسدية أخرى، وعندما نكبت شعورًا ما، فإن هذا يكون بسبب الشعور بالكثير من الذنب أو حتى الخوف من شعور لم نشعر به بوعي أبدًا، فيندفع فورًا نحو اللاوعي بمجرد أن يهدد بالظهور، وبهذا يتم التعامل معه بعدة طرق لضمان إبقائه مكبوتا وخارج نطاق الوعي.

تعد هذ الآليات من أكثر الوسائل التي يستخدمها العقل كي يبقي المشاعر مكبوتة، وكي يتم إنكارها وإسقاطها على سبب آخر.

٢. التعبير:

مع هذه الآلية يتم التنفيس عن المشاعر والتعبير عنها من خلال لغة الجسد وإظهارها عن طريق مجموعة مظاهرات غير منتهية، فالتعبير عن المشاعر السلبية يسمح فقط بالتنفيس هما يمكن من الضغط الداخلي ليتم قمع ما يتبقى منه، وهناك نقطة مهمة جدًا يجب فهمها، ففي حين يؤمن الكثير من الناس بالمجتمع اليوم، أن التنفيس عن مشاعرهم يحررهم منها، فإنه بالواقع عكس ذلك، فالتعبير عن شعور ما، أولا يزيده ويعطيه طاقة أكبر، وثانيا فإنه ببساطة يقمع ما تبقى من المشاعر ويخرجها من نطاق الوعي.

٣. الهروب:

هو تجنب المشاعر من خلال الإلهاء، فهو أساس صناعة التسلية والخمور وهو طريقة مدمني العمل. إن الهروب من الوعي الداخلي وتجنبه هو طريقة تجاهل اجتماعية، فيمكننا تجنب ذواتنا ومنع مشاعرنا من الظهور من خلال مطاردات مختلفة لا تعد ولا تحصى تتحول بعضها بالنهاية إلى إدمان كلما ازداد إعتمادنا عليها.

يشعر الناس بالتعاسة لأنهم غير واعين، فنحن نلاحظ كم مرة يشعلون التلفاز بمجرد دخولهم إلى البيت ليدخلوا في حالة تشبه الحلم ودائما ما يكونون مبرمجين بسبب البيانات التي صُبت بداخلهم. وهم يخشون مواجهة أنفسهم ويفزعهم الجلوس بمفردهم ولو لدقيقة وهذا ما تسبب في وجود أنشطة مجنونة مستمرة: النشاطات الاجتماعية التي لا تنتهي والحديث والرسائل النصية والقراءة وعزف الموسيقى والعمل والسفر والسياحة والتسوق والإفراط في تناول الطعام، والقمار والذهاب لمشاهدة الأفلام في السينما وتناول الحبوب وتعاطي المخدرات وحضور الحفلات.


ثم يطرح (هاوكينز) آلية السماح بالرحيل لتعامل مع المشاعر فيقول:

السماح بالرحيل يعني إدراك شعور ما، السماح له بالظهور، المكوث معه، والسماح له أن يأخذ مجراه دون محاولة تغييره أو القيام بأي شيء حياله. إنه ببساطة يعني السماح له أن يكون هنا والتركيز على التخلص من الطاقة التي تكمن خلفه.

تقوم تقنية السماح بالرحيل لدى (هاوكينز) على عدة نقاط: 

  • أن تسمح لنفسك أن تشعر بالشعور بدون مقاومة، أو الهروب منه، أو الخوف منه، أو إدانته، أو تهذيبه
  • أن تسقط الأحكام وترى أنه ما هو إلا شعور، تبقى مع الشعور، وتتخلى عن أية جهود تسعى لتحسينه بأي حال من الأحوال.
  • عدم مقاومة الشعور، فالمقاومة هي ما يجعل الشعور يستمر، فعندما نتخلى عن المقاومة أو محاولة تغيير الشعور ستتحول إلى شعور آخر وسيصاحبها إحساس أكثر خفة، فالشعور الذي لم تتم مقاومته سيختفي وستتبدد معه الطاقة الكامنة خلفه.
  • قد تلاحظ أنك تعاني من الخوف والشعور بالذنب بسبب وجود مشاعر، وستصبح هناك مقاومة عامة للمشاعر، ولكي تجعل المشاعر تظهر، من الأسهل أن تسمح برحيل ردة فعلك تجاه وجود مشاعر في البداية، مثال على ذلك الخوف من الخوف بحد ذاته، إسمح برحيل الخوف والشعور بالذنب الذين تشعر بهما تجاه مشاعرك أولا، وبعدها انتقل للشعور نفسه.
  • عندما تسمح بالرحيل، تجاهل كل الأفكار التي تراودك، ركز على الشعور بحد ذاته، فالأفكار لا تنتهي وتولد المزيد منها وما هي إلا تبريرات من العقل في محاولة تفسير سبب وجود الشعور.  
  • أما السبب الحقيقي للشعور فهو الضغط المتراكم خلفه الذي يجبره على الظهور في لحظة ما، فما الأفكار أو الأحداث الخارجية إلا أعذاراً من صنع العقل.

ويقول:

من الممكن الحفاظ على حالة الحرية هذه مع ممارسة آلية السماح بالرحيل بصورة مستمرة، بحيث تأتي المشاعر وتذهب حتى تدرك أخيراً أنك لست مشاعرك وإنما “أنت” الحقيقي ليس أكثر من مراقب لها، فلا تعد تربط نفسك فيها، وعلى هذا تكون “أنت” الذي تراقب وتدرك ما يحدث تبقى دائما كما “أنت”.


بقلم: حصة سليمان

تحرير: أحمد بادغيش

زر الذهاب إلى الأعلى