فن العُزلة .. حديث ستيفان باتشلر عن الممارسة التأمليِّة والإبداع
"عندما تتمرن على العزلة، فأنت تكرس ذاتك للاعتناء بروحك"
“امنحني العزلة” هكذا طالب (ويتمان) وهو يُغني للتوتر الأبدي بين المدينة والروح، “امنحيني أيتها الطبيعة استقاماتك الفطرية من جديد!” في هذه الاستقامات الفطرية، نكتشف أن “لا مكان أكثر حميمة من الروح وهي وحيدة،” كما كتبت (ماي سارتون) في قصيدتها المذهلة عام ١٩٣٨م نشيد إلى العزلة، وهي تدلي بشهادتها المنولة بعد لأْي عن أن العزلة مِهادٌ لاكتشاف الذات، ذلك لأنها هنا في موضعها الحميم هذا تُرى فيه -أي الذات- أشد وضوحاً على ماهيتها العذبة.
عَرَف (خليل جبران) أن العزلة تدعونا لشجاعة معرفة ذواتنا. اعتقدت (إليزابيث بيشوب) اعتقادا “أن هناك شكلاً واحداً للعزلة، وهي عزلة هائلة وليس بالوسع احتمالها”، وكتب (ريلكه) بتبصّر عن العلاقات بين العزلة والحب والإبداع، “لكن … يجب علينا تحمل المشقة.”
يعرف الشاعر الحالم، كما يعرف العلماء المتبصر، وكما يعرف كل الأشخاص المنخرطين في حياة الإبداع والتفكّر، والتي هي في الغالب حياة واحدة، كيف أن عزلة اكتشاف الذات هذه تغدو معيناً لكل معنى مصاغ يجعل الحياة تستحق العيش، سواءً أسميناها فناً أو حباً. من فوق صخرة العزلة على شاطئ الحياة، نحن نرنو إلى تكاليف الوجود ونمرن أعيننا كي تمعن النظر في مجال أوسع لكل ما يستعصي فهمه وتصديقه من حولنا. العزلة، المقصودة هنا، ليست مجرد حالة من الوحدة لكنها فن الوجود الكامل مع ذواتنا، فنٌ نستحوذ عليه مثلما نفعل مع كل فن، عبر التتلمذ والمثابرة المتفاني في إسهاب التفكير في النور الداخلي الوحيد غالباً لوجودنا الفردي المستقل عن أي مخلوق.
البراعة، الحساسية والصعوبة، هي ما يستكشفه المعلم والتلميذ البُدَّهي١ (ستيفان باتشلر) في كتابه (فن العزلة). محتفياً بالعزلة ليس من ناحية امتيازات الهروب التي تمنحها لكن ممارستها كسبيل مقاومة لضغوط العالم الحقيقية، كما يكتب “من محل الاستقلالية، العجائبي، التفكر، التخيل، الإلهام، والعناية”.
العزلة الحقيقية حالة من العيش تعوز لأن تستثمر. فليس بالوسع الدخول فيها والخروج منها كما نريد. العزلة فن. تحتاج لمران ذهني حتى لصقلها واستقراراها في النفس. عندما تتمرن على العزلة، فأنت تكرس ذاتك للاعتناء بروحك.
قبل حوالي أربعين سنة بعد محاولته الأولى في تجسير المفاهيم الغربية والوجودية مع التعاليم البُدَّهية في كتابه من العام ١٩٣٨م بعنوان (وحيداً مع الآخرين: وسيلة وجودة إلى البُدَّهية)، يرسم (باتشلر) تجربة عمر من التمكن في العزلة، بطريقة مباشرة، عبر تفكره الذاتي ومرانه وانسحاباته الصامتة المتعددة، وبطرق أخرى، عبر انغماسه في حيوات وأعمال الباحثين في العزلة طوال القرون الماضية بداية من (مونتين) مرور بـ(نيتشه) حتى انغمار (بيرغمان)، وذلك لتشكيل أساس التساؤل، بجوهره وتجسده، في قلب فن العزلة:
لا تتوقع أن يحدث شيء. انتظر فحسب. هذا الانتظار هو القبول العميق لتلك اللحظة بحد ذاتها. (نيتشه) يسميها الحب الذي لا جدال فيه للشيء المحتم الذي جاء بك إلى هنا أيا كان. فأنت تصل إلى نقطة تكون فيها جالساً هنا وحسب، متساءلاً، “ما هذا الوضع؟”، لكن دون اهتمام بالإجابة. التوق لإجابة يقلل من فحولة السؤال. هل سيرضيك ارتياحك لهذه الحيرة، هذا التردد، في حالة متجسدة من التركيز المتعمق؟ مجرد الانتظار دون أية توقعات؟
تساءل “ما هذا الشيء؟” وتقبل كل ما “ستسمع” في الصمت الذي يعقب ذلك. تقبل هذا التساؤل بنفس الطريقة التي تسمع فيها معزوفة موسيقية. وجه كل انتباهك إلى نغمات الطيور والرياح في الخارج،إلى الصوت العارض لطائرة تطير في السماء من فوقك، لجلجلة المطر على نافذة. أصغ بعناية، وانتبه كيف أن الإنصات ليس تفتحاً في ذهنك وإنما في قلبك، اهتمام أو حرص يحييك لهذا العالم، مصدرٌ لما ندعوه العاطفة أو الحب.
رجع صدى الثقة التي تحدث عنها (راتشيلر كارسون) في مقالة: (وحدة العمل الإبداعي، نتاج ثانوي للعزلة لازم للعمل الإبداعي)، طبيعي ومحتاج إليه، غالباً مرعب ولكنه مفسّر، كما يقول (باتشلر):
أن تكون وحيداً جالساً على مكتبك أو في مُحترفك ليس كافياً. يجب عليك أن تحرر نفسك من النقاد في داخلك والذين يتعقبونك أينما ذهبت. “عندما تبدأ بالعمل،” كما يقول الملحن (جون كيج)، “ستفد كل الأشياء محترفك، ماضيك، أصدقاؤك، أعداؤك، عالم الفن، وفوق كل ذلك، أفكارك الخاصة، كلهم هنا. لكن مع استمرارك في تشكيل الأشياء، يبدأ الجميع بترك المكان، واحداً تلو الآخر، ويتركونك وحيداً. بعد ذلك، لو حالفك الحظ، حتى ذاتك ترحل معهم.”
[…]بإغلاقك الباب، تجد نفيك وحيداً أمام اللوحات الفارغة، الأوراق الخالية، كومة الطين، شاشة الحاسوب. أدوات أخرى توجد من حولك، في متناول يدك/ تنتظر أن تستخدمها. تستمر في حوارك الصامت مع العمل الإبداعي. وهذه عملية باتجاهين: أنت تصنع العمل ومن ثم تستجيد له. يمكن للعمل أن يلهمك، يفاجئك، يصعقك … فعل العزلة في صنع الفن يشتمل على حوار بلا كلمات متسم بالشدة.
برسم علاقة بين فكرة النرفانا في البُدَّهية وبين فكرة الإمكانية السلبية لدى كيتس، تلك الرغبة الرحبة للانفساخ من أي ارتباط، كل تفاعلية، ثبوتية، والعيش بدلاً عن ذلك مع الغموض وإعلاء مكانة عدم الوضوح، باتشلر يرى أن المران التأملي يدربنا على القابلية لرؤية كل لحظة كفرصة للبدء مرة أخرى، لتذوق الحياة كما تتأتى، بلا إصلاح، دائمة التقلب واستمرارية القدرة على التغيّر. يعتبر هذا أمراً أساسيا ومكافأة حقة لممراسة التأمل:
كي يكون المران التأملي جزءاً من الحياة فإن هذا يتطلب تطير القدرات في تقنيات التأمل. يستدعي التفكر وتهذيب حساسية إدراكنا لكليات وجودنا، من اللحظات الشخصية للآلام إلى آلالام العالم اللانهائية. الحساسية هذه تشتمل على سلسلة من المهارات: اليقظة، الفضول المعرفي، الفهم، التماسك، العاطفة، الاتزان، الرعاية. كل واحدة من هذه الأشياء بالوسع تنميتها في بيئة منعزلة لكنها إن لم تكن قادرة على العيش في ظل الخوف من الاحتكاك بالآخرين فقيمتها قليلة. لا قناعة مع فعل المران التأملي؛ هي حالة من المران المستمر. فالعالم موجود هنا بقضة وقضيضة ليفاجئنا. معظم ما أدركت جاء في سياق نهوضي من على هذه الفكرة وليس بالإخلاد إليها.
بالانسجام مع الفيلسوف والشاعر (وندال بيري) وإيمانه الذي صدقته الحياة أنا “نعثر على العزلة في الفلوات بعيداً عن المنازل والبيوت”، حينما يكون المرء بلا التزام نحو أحد من البشر، حينما يكون “صوت المرء الداخلي مسموعاً وتبعاً لذلك، يمكن للمرء الاستجابة بصفاء لحيوات أخرى”، ويضيف (باتشلر):
بالانسحاب من العالم نحو العلة، أنت تفصل ذاتك عن الآخرين، بعزل نفسك، يكون بوسعك أن ترى بوضوح ما يميزك عن الآخرين. وقوفك في هذا الموضع يساعدك لتوكيد وجودك. ويحررك من الضغوط الاجتماعية والقيود/ العزلة بوسعها أن تساعدك كي تفهم على نحو أحسن أي نوع من الأشخاص أنت وأي حياة هي الأنسب لك. بهذه الطريقة تصبح مستقلاً عن الآخرين. تجد طريقك الخاص، وصوتك الخاص.
وهنا يكمن لغز العزلة. أن تمعن النظر بشدة وبما يكفي في نفسك معتزلاً وفجأة في نفس الوقت سترى أنك تنظر لبقية البشرية وهي تبادلك النظر. الوحدة المستدامة تأخذك إلى نقطة التحول التي يعيدك فيها بندول ساعة الحياة المتذبذب إلى الآخرين.
ترجمة: علي الضويلع
مراجعة وتحرير: أحمد بادغيش
ملاحظات المترجم:
١. لما يتعلق بالبُدَّهية طالع كتاب حضارات الهند، (جوستاف لوبون) بترجمة (عادل زعيتر)