مكانة العلم في التعليم المتحرر عند برتراند راسل
"يشتمل التعليم ليس فقط على ما نتعلمه عن طريق التدريس، وإنما على كل ما نتعلمه عبر الخبرة الشخصية"
برتراند راسل (١٨٧٢-١٩٧٠) فيلسوف وعالم منطق ورياضي وأيضاً هو مؤرخ وناقد اجتماعي بريطاني.
في كتابه (عبادة الإنسان الحر)، والذي نقله إلى العربية الأستاذ (محمد عمارة)، وتحت عنوان “مكانة العلم في التعليم المتحرر” يبدأ (راسل) حديثه بشرح مفردة العلم الذي يقصده في البداية، وأنه عملية المعرفة المتأنية، فيقول:
بالنسبة للقارئ العادي للصحف اليومية يتمثل العلم في مجموعة مختلفة ومنتقاة من الانتصارات العلمية المثيرة مثل التلغراف، اللاسلكي، الطائرات، النشاط الإشعاعي ومكتشفات الكيمياء الحديثة.
ليس عن هذا العلم أود الحديث، فالعلم في هذا الخصوص يتكون من شظايا منفصلة عمّا هو جديد، تعد مثيرة للاهتمام إلى أن تحل محلها أمور أحدث لا توضح أي شيء عن النظم الخاصة بالمعرفة المتأنية والتي نتجت عنها، كحدث سببي، النتائج العلمية المفيدة التي تهم رجل الشارع.
إن تنامي التحكم في قوى الطبيعة والذي ينبع من العلم هو بلا شك سبب كاف لتشجيع البحث العلمي، ولكن هذا السبب كان دائمًا دافعًا للاستمرار وسهلًا في تقديره، بحث إن الأسباب الأخرى والتي هي بالنسبة لي على نفس الدرجة من الأهمية، يتم غالبًا تجاوزها.
هذه الأسباب الأخرى، خاصة القيمة الداخلية للطبيعة العلمية للعقل عند تشكيله لنظرتنا للعالم هي ما سأهتم به فيما هو آت.
ثم ينتقل بعد ذلك (راسل) إلى مفردة التعليم، الممتدة عن الخبرة الشخصية للحياة، بل تك،يم عادات ذهنية معينة تجاه الحياة، فيقول:
بمعناه الأوسع، يشتمل التعليم ليس فقط على ما نتعلمه عن طريق التدريس، وإنما على كل ما نتعلمه عبر الخبرة الشخصية، وبمعنى أدق -تكوين الشخصية عبر التعليم من الحياة- بالنسبة لهذا الجانب من التعليم، وهو جانب شديد الحيوية والأهمية، لن أقول شيئًا لأن جوانبه سوف تقدم موضوعات بعيدة كل البعد عن السؤال الذي هو موضع الاهتمام في معناه الأضيق، قد يقتصر التعليم على التدريس أي نقل معلومات معينة عن موضوعات مختلفة، لأن مثل هذه المعلومات في حدّ ذاتها مفيدة في الحياة اليومية.
التعليم الأساسي -مثل القراءة والكتابة والحساب- هي من هذا الطراز.
ولكن التدريس، على ضرورته، ليس في حد ذاته يمثل التعليم بالمعنى الذي أود مناقشته.
التعليم بالمعنى الذي أقصده، يمكن تعريفه على أنه تكوين لعادات عقلية معينة ونظرة معينة للحياة وللعالم عن طريق التدريس.
يتحدث بعد ذلك (راسل) عن الغرض من التعليم، وكيف يمكن للبحث عن الحكمة، وإنتاج مواطنًا كونيًا متحضرًا، فيقول:
غرض التعليم بالتالي لا يمكن أن يكون خلق أي دافع أولي، لا يوجد في غير المتعلم، إنما يكون توسيع مجال الدوافع التي توفرها الطبيعة البشرية، بزيادة عدد وأشكال الأفكار المتاحة، وإظهار أين يمكن أن يوجد الإشباع الدائم.
فتحت دافع الخوف “للإنسان الطبيعي”، وهي الحقيقة الواضحة التي دائمًا ما أسيء فهمها في تربية النشء، اعتبر أن ما هو “طبيعي” هو ما يستبعد منه كل ما هو طيب وهذا بالطبع يعد خطأً، كما أن محاولة تدريس الفضيلة أدت إلى جيل من المنافقين ذوي الفكر المشوه بدلًا من بشر ناضجين.
ومع استمرار هذه الأخطاء في التعليم، بدأت سيكلوجية أفضل وأكثر ليونة ورقة للحفاظ على الجيل الحالي، فنحن نحتاج بالتالي فيما نحتاجه إلا نسفح كلمات أكثر عن مقولة أن غرض التعليم هو اقتلاع كل ما هو طبيعي.
ولكن على الرغم من أن الطبيعة يجب أن توفر القوة المبدئية للرغبة، فإن الإنسان المتحضر ليست هي مجموعة الرغبات المحمومة، المتشجنة والعنيفة الموجودة في الإنسان البدائي. فكل دافع له الكون المهيمن الخاص به من الفكر والمعرفة والتدبر الذين من خلالهم يمكن التنبؤ بالاختلاف والتناقض الممكن بين الدوافع، وأن الدوافع العارضة تقع تحت تحكم الدافع الموحد الذي يمكن تسميته “الحكمة“.
بهذا الأسلوب يحطم التعليم بدائية الغريزة ويزيد عبر المعرفة والثروة التي يجنيها الفرد من اتصاله بالعالم الخارجي مما لا يجعله وحدة معزولة مقاتلة، بل يجعله مواطنًا كونيًا يهتم بالبلاد البعيدة، والفضاء الأبعد والامتداد الشاسع للماضي والمستقبل داخل دوائر اهتمامه.
إن هذا التخفيف المتحرر من إلحاح الرغبة وتوسيع مجالاتها يعد الهدف الرئيسي للتعليم.