أسباب التجديد والتغيير في النبوّة عند الصدر
الفيلسوف العراقي الشهيد محمد باقر الصدر قامة عظيمة في الفلسفة الإسلامية وعلومها. تُعتبر مؤلفاته كـ (فلسفتنا [تحميل]) و (اقتصادنا) من أهم ما اُضيف للمكتبة العربية والإسلامية وما زالت تدرّس في بعض الجامعات العالمية. شيّدت جامعة موسكو مؤخرًا تمثالا له جنبًا إلى جنب بعض العظماء والعلماء. طرحه الإسلامي الأصيل والشامل ترك أثره العميق على العديد من المفكّرين والباحثين.
هنا يطرح الصدر رؤيته في التجديد والتغيير في النبوّة، ويُجيب لمَ كان لزامًا أن يُبعث نبيٌ بين كل حقبة زمنية حتى اُختتمت السلسلة الرسالية بمحمد عليه الصلاة والسلام.
التغيير والتجديد في النبوة له أسباب عديدة معقولة:
السبب الأول:
إذا كانت هذه النبوّة قد استنفذت أغراضها واستكملت أهدافها، لابد لها وأن تُخلي الميدان لنبوةٍ تحمل أهداف جديدة. وأقصد بكون النبوة تستنفذ أغراضها، أن تكون النبوة بالذات وصفة لمرض طارئ في حياة البشرية.
تطرأ بعض الأمراض المعينة من الناحية الفكرية والروحية والأخلاقية، وتحتاج هذه الأمراض إلى نوعٍ من العلاج، يترفق المولى سبحانه في إنزال وحي معيّن لأجل بيانه. وبطبيعة الحال سوف تكون الوصفة المقدّمة من قبل هذه الرسالة لعلاج هذا المرض قائمة على أساس هذا الحال الاستثنائي. ومن المنطقي والمعقول أن لا تصح وصفة من هذا القبيل على كل زمان ومكان. فمثلًا، ما يُقال عن المسيحية من أنها كانت تتجه إلى نزعة روحية مفرطة. هذا التركيز كان علاجًا لمرض عاشه بني إسرائيل: وهو الانغماس المُطلق في الدنيا والحالة النفسية التي كانت تجعل الانسان اليهودي مشدودًا إلى درهمه وديناره.
السبب الثاني:
من جملة الأسباب المعقولة لتغيير النبوة هو أن لا يبقَ منها تراث يمكن أن يُقام على أساسه العمل والبناء. إذا افترضنا أن نبوةَ جاءت ومارست دورها في قيادة البشرية، إلا أن هذه النبوة بعد أن مات شخص النبي، تولّدت ظروف وانحرافات أكلت كل ذلك التراث الروحي والمفاهيمي، بقيت النبوة مجرد رؤى تاريخية وشعار غامض. في مثل هذه الحالة، لا يمكن أن تواصل هذه الدفعة الإلهية عملها. ففي مثل هذه الحالة، لابد من دفعة جديدة لكي يُستأنف العمل ويُستأنف الشوط في سبيل إعادة البشرية إلى ربّها.
وأيضًا هذا السبب نجده إلى درجة كبيرة في المسيحية بالذات. فالمسيحية بعد أن غادر السيد المسيح مسرح الدعوة والعمل، لم يبقَ من المسيحية شيء حقيقي، فالرسالة المتمثلة في الانجيل قد انطفأت، والحواريون كانوا من حيث القلة والتشتت والاضطراب الذهني ما يجعلهم غير قادرين على حماية التراث الباقي في أذهانهم من السيد المسيح.
السبب الثالث:
وأيضًا من الأسباب، هو أن تكون الرسالة التي هبطت على النبي محدودة باعتبار محدودية نفس النبي، فهناك نبي البشرية ونبي القبيلة، باعتبار مستوى كفاءة القيادة الفكرية والعملية في شخص النبي، مما يوثر في تحديد الرسالة التي يحملها النبي. ولهذا كانت بعض الرسالات محدودة بحكم محدودية قابلية الأنبياء أنفسهم.
السبب الرابع:
من جملة الأسباب التي تدعو إلى تغيير النبوة هو تطور البشرية وتطور نفس الانسان المدعو. الانسان المدعو يتصاعد بالتدريج لا الفطرة، وينمو على مر الزمن في أحضان هذه الرسالات الإلهية، فيكتسب من كل رسالة إلهية درجة من النمو، تهيئه وتعدّه لكي يكون على مستوى الرسالة الجديدة وأعبائها الكبيرة.