عن الفن والحرية والازدواجية، بين علي عزت بيغوفيتش وهرمان هيسه
"حتى إن مشاعر اجتاحتني بأنها غابة كثيفة لا أستطيع عبورها إلا بصعوبة بالغة"
عن الفن:
حينما هم (بيغوفيتش) بتلخيص فصل الفن في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب) أبدع وأوجز حين قال: “إن الفن في بحثه عما هو إنساني، أصبح باحثاً عن الله. وإذا كان الفن يشير إلى وجود فنانين ملحدين اسميًا، فإن هذا لا يغير كل شيء، فالفن طريقة للعمل وليس طريقة للتفكير و ظاهرة الإلحاد في الفن ظاهرة نادرة جدًا و يمكن إرجاعها إلى تناقض في الإنسان نفسه” وفي موضع آخر من الفصل نفسه يقول: “إن الفن يرُد دَينه للدين بوضوح أكثر خلال الرسم والنحت والموسيقى”.
اما (هيرمان هيسّه) الفيلسوف والأديب الألماني فقد ألبس أبطال رواياته من شتى وشي الفنون و زينته، فغالبا ما يكون أبطاله إما فنانين أو رسامين أو موسيقيين. وكلها تعكس ما يتمتع به من عبقرية فنية فذة، برز ذلك في قصائده وأشعاره وكذلك في رواياته الفلسفية أو في عشقه للموسيقى أم حتى كان ذلك في عثوره على لغة مناسبة جديدة في كل مرة يزوره الاكتئاب، ووضعه حين عثر على نفسه بالرسم, إذ سمح للفرشاة بالنطق بما يستعصى عليه أو يوجعه.
بين التمرد والحرية:
الرجلان، وإن كانا يختلفان في موقفهما من الدين والتدين؛ فالأول اختار الدين طواعية وعن رضى نفس وقناعة إيمانية، وبذلك وضع حدًا للشكوك الإيمانية والروحية التي راودته في فترة شبابه المبكر إبان المدّ الشيوعي، بل و أصبح أكثر ثباتًا حتى عد من الأعلام البارزين المناضلين، والآخر اختار أن يكون الدين أحد الحقائق محل التشكيك والبحث وهدف الترحال والحادي للتأليف، وإحدى مثيرات الرغبة بالكتابة والتأمل، وقد تفرد في كتاباته بطول النفس في البحث عن الحقيقة الضائعة، و تميز بنزعته الصوفية – البوذية نلحظها في منهج أبطال رواياته، إذ غالبًا ما يختارهم محبي للتأمل و الارتماء في أحضان الطبيعة وهذا انعكاس لولعه الشخصي بفهم لغة الطبيعة وتوصيف تأملاته لتدفق الأنهار، ونمو الأشجار، كإحدى أثرى كائنات الطبيعة وأعمقها حضورا.
إلا أن (بيغوفيتش) كان أكثر توازنًا في جمعه بين التأمل والتفكر إذ كما قال في كتاب (هروبي إلى الحرية):
“تأملوا و تفكروا” هما في الحقيقة طريقان مختلفان، وهدفان، والفرق بينهما هو الفرق بين الفيزياء والميتافيزيقيا.
و قد يعود ذلك الى تربيته القرآنية أولاً، أضف لذلك عاملاً آخر لا يجب التقليل من تأثره وهو سجنه بين جدران اسمنتية شاهقة وقد استغرق سجنه جزءًا من عمره.
اتفق الرجلان في الإعلاء من شأن الحرية. بزغ ذلك مبكرًا في (هيسة) الذي أعلن تمرده على النظام المدرسي وصرح بنفوره من المدرسين، وقد كان ذلك أحد أسباب الشقاق بينه ووالده، في نفوره الشديد من الدين وأغلب الضوابط والقيود، مع اختياره للعزلة بمحض إرادته. ففي رواية (دميان) طرح تساؤلات عقائدية تشكك في الأخبار الواردة في المصادر المقدسة، و قدم تصورات ومفاهيم جديدة عن الطبيعة والمرأة والحياة، أما رواية (سدهارتا) التي تعكس جو أسطورى هندي، يتكئ سيد (هارتا) على شجرة جوز هند على ضفة النهر ويلف ذراعه حول جذعها فيرى الماء يفيض من النهر، وهي تدور فى عالم خيالي يحاول فيه (هارتا) البحث عن ذاته داخل ذاته، فى تأثر واضح بالفلسفة البوذية الهندية. يصل بطل الرواية إلى منبع النهر ويكشف سر أسباب التوحد الإنساني مع الطبيعة، فيما يشبه «النرفانا» أو الجنة الروحية الداخلية البوذية وهو في حالة من البحث المضني للحقائق الباطنية الكامنة خلف كثير من ظواهر الحياة، تجسدت حرية (هيسة) في البحث الشخصي الدائم عن التحرر والخلاص والصدام مع الذات تارة والعودة إليها تارات أخر، تشي بذلك أعماله الأدبية التي وصفها بأنها (سيرة ذاتية للروح).
و إن كان (هيسة) مستاءً من صعود النازية، و مصادرة كتبه، إلا أنه اُنتقد لعدم إعلانه معاداتها. في حين تميز (بيجوفيتش) بكونه قد خاض صراعات في سبيل الحرية أودت به الى السجن سواء كانت هذه الصراعات تتمحور في الصراعات السياسية الرافضة للاحتلال والتي كان ثمنها السجن، أو صراعات أخرى فكرية كان هدفها تجديد الفكر الإسلامي في دولة تخضع للاحتلال شيوعي، إذ يقول في مقدمة كتابه (هروبي الى الحرية): “لم أستطع الكلام و لكني استطعت التفكير، وقررت أن استثمر هذه الامكانية حتى النهاية“.
فلمفهوم الحرية بين الرجلين وجوهًا تتقاطع حينًا وتفترق أحيانًا، فإن كان الترحال والتنقل والارتماء في أحضان الطبيعة أعظم روافد الحرية لدى (هيسة)، إلا أن لم يكن متاحاً لدى (بيغوفيتش) سوى التحليق بالفكر والعقل عبر موسوعة من الثقافات والعلوم والفنون التي تفرد بها.
مفهوم الثنائية و الازدواجية في حياة الرجلين:
في الكريات (الزجاجية) لـ(هيسة) ومن خلال شخصية البطل (كنشت) عبّر عن الموقف الفاصل قال فيه لصاحبه: “على كل انسان أن يدافع عما يؤمن به، أنت الروح وأنا الطبيعة، يجب أن لا نهرب من الحياة النشطة بالتأمل أو العكس، وإنما من الضروري أن نكون بين الاثنين بلا حراك وأن نشارك في كلتا الحياتين وأن نكون في الاثنين في البيت” .. وتتجمع شخصيات كثيرة تتضمن ما يبدو تناقضات عديدة، فهناك نزعة نحو المحافظة والإيمان، ونزعة نحو اليقظة والتقدم، فيمكن للإنسان أن يكون منطقيًا ورياضيًا، ويمكن أن يكون متشبعًا بالخيال والموسيقى، و هذا ما حمل بطل الرواية الى أن ينتهي به الحال إلى شخصية مستقطبة معقدة.
في حين قد أقر (بيغوفيتش) بالثنائية فكما يقول في (هروبي إلى الحرية):
ازدواجية الانسان هذه كانت دائمًا في فكر الناس و رمزت إلى عضوين: القلب و العقل، القلب حاملًا للحياة الروحية والعقل للحياة النفسية. الروح والنفس ليستا من عالم واحد، و عندما كان البدائي يريد أن يعبر عن شيء عميق في نفسه، عن الدين والطاعة والحب والحياة، ونوايا الروح كان يشير إلى صدره، وليس إلى رأسه، وكذلك القرآن (عْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (4) التغابن.
و المتأمل في كتابات (بيغوفيتش) يندهش لما يتمتع به من ثقافة واسعة وفكر أصيل يعبر عن ذلك بأسلوب أدبي علمي واضح ورصين، يفهمه الجميع، في حين أن (هيسة) عُرف بعمقه ورمزيته فضلا عن تعبيراته المجازية الغارقة في توصيف محطات الرحلة الداخلية من أجل البحث عن الحقيقة، من خلال الطبيعة الساحرة إذ أن الطبيعة والروح لدى (هيسة) هما أنشودة الحياة.
يعترف بتواضع (بيغوفيتش) بالارتباط الوثيق الذي يجمعه بـ(هيرمان هسه)، فكلاهما كانا مهمومين بالأفكار نفسها، كما يقول ويستدرك، “ولكنه أقدر مني على التعبير عنها”. و في موضع آخر من الكتاب نفسه (هروبي الى الحرية) يكتب : “أنهيت اليوم قراءة (لعبة الكريات الزجاجية) لـ(هيرمان هيسة) … إنها أحد الكتب الأقرب الى أفكاري ومشاكي، أنها نص معقد، حتى إن مشاعر اجتاحتني بأنها غابة كثيفة لا أستطيع عبورها إلا بصعوبة بالغة”.
ومن الإنصاف أن نذكر للرجلين أنهما، وإن اختلفا في الديانة والعرق وطبيعة الظروف الاجتماعية التي أحاطت بهما، إلا أنهما اتفقا في موقفهما الثابت من خلال نبذ العنف والحرب والدمار مع الدعوة للتسامح والوحدة والتنوع الثقافي فاستحق (هيسة) الحائز على جائزة نوبل 1946 فقد حصل (بيغوفيتش) على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام لعام 1413 هـ الموافق 1993.
بقلم: هدى مستور تحرير: أحمد بادغيش