الماضي والزمن عند باشلار
يعدّ غاستون باشلار (1884 – 1962) واحداً من أهم الفلاسفة الفرنسيين، وهناك من يقول أنه أعظم فيلسوف ظاهري، وربما أكثرهم عصرية أيضاً. فقد كرّس جزءاً كبيراً من حياته وعمله لفلسفة العلوم، وقدّمَ أفكاراً متميزة في مجال الابستمولوجيا حيث تمثل مفاهيمه في العقبة المعرفية والقطيعة المعرفية والجدلية المعرفية والتاريخ التراجعي، مساهمات لا يمكن تجاوزها بل تركت آثارها واضحة في فلسفة معاصريه ومن جاء بعده. في كتابه (جدلية الزمن)، تحدث عن الماضي والزمن، فقال:
إن الذكرى لا تُعلَّم دون استناد جدلي إلى الحاضر. فلا يمكن إحياء الماضي إلا بتقييده بموضوعة شعورية حاضرة بالضرورة. بكلام آخر، حتى نشعر أننا عشنا زمنًا – وهو شعور غامض دائمًا بشكل خاص – لابد لنا من معاودة وضع ذكرياتنا، شيمة الأحداث الفعلية، في وسط من الأمل أو القلق، في تماوج جدلي. فلا ذكريات بدون هذا الزلزال الزمني، بدون هذا الشعور الحيوي. حتى هذا الماضي الذي نعتقده ممتلئًا، فإن الذكر، السرد، المساررة، تعيد وضع الفراغ في الأزمنة غير الفاعلة ؛ إننا حين نتذكر، بلا انقطاع، إنما نخلط الزمان غير المجدي وغير الفعّال بالزمان الذي أفاد وأعطى. ولا تكون جدلية السعادة والتعاسة مستحوذة إلى هذا الحد إلا عندما تكون متوافقة مع الجدلية الزمانية. عندئذ نعلم أن الزمان هو الذي يأخذ ويعطي. وفجأة نعي أن الزمان سيأخذ أيضًا. إن معاودة عيش الزمان الغابر معناه تعلمنا قلق الموت.
وبطريقة ألطف، يضعنا الأسف على مناسبات وفرص ضائعة أمام ثنائيات زمانية فعندما نرغب في التعبير عن ماضينا، وفي إعلام الآخر بشخصنا، إنما يستحوذ الحنين إلى الأيام التي لم نستطع أن نعيشها، على عقلنا التاريخي ويهزه في العمق. ولربما سنرغب في راوية سلسلة متواصلة من أفعالنا وحياتنا. لكن نفسنا لم تحتفظ بالذكرى المخلصة لعمرنا ولا بالمقياس الصحيح للسفر الطويل على مدى السنوات ؛ فهي لم تحتفظ إلا بذكرى الحوادث التي أنشأتنا وخلقتنا في اللحظات الحاسمة من ماضينا. وفي سريرتنا، تنخفض جميع الحوادث إلى جذرها في لحظة. إذًا تاريخنا الشخصي ليس سوى رواية أفعالنا وأعمالنا المفككة، وإننا حين نرويها، إنما نرويها زاعمين أننا نمنحها تواصلها بالمبررات العقلية لا بالزمان. وبالتالي، سنبين أن الذاكرة لا تقدم لنا النسق الزمني مباشرة ؛ فهي بحاجة إلى أن تتقوى بعناصر انتظام أخرى. فلا يجوز لنا أن نخلط بين ذكرى ماضينا وذكرى زماننا.