الفلسفة و الأخلاق من منظور د.طه عبدالرحمن
طه عبد الرحمن، فيلسوف مغربي، متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق. ويعد أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين في مجال التداول الإسلامي العربي منذ بداية السبعينات من القرن العشرين.
كيف ينظر الدكتور طه عبدالرحمن في مسألة الفلسفة والأخلاق من حيث أن الفلسفة هي في أصلها نظرية أقرب ماتوصف بأنها عمليه، وهذا قد لا ينطبق على الأخلاق من حيث أنها سلوك والسلوك أمر لا يفسر لمجرد النظر بل أقرب ما يكون بالعمل، يرد على ذلك قائلاً:
بدون شك هيمن على الفلسفة تصور ما، كان هذا التصور هو أن الفلسفة نظر استدلالي، بحيث لا نحتاج إلا لاستخدام العقل والنظر للوصول إلى الحقائق سواء بالكونيات أو الغيبيات أو السلوكيات. لكن لو نظرنا لهذا التصور، لوجدناه يخل بمقتضى منطقي وهو أن النظر المجرد لايمكن أن يحكم على السلوكيات، لأنه يحتاج أن يتحقق بخصائص السلوكيات لكي يتمكن من الحكم عليها. أي لابد للفسفة أن تكون مصحوبة بالعمل، حتى تفتح في العمل أفاق جديدة لم تكن فيه لما كانت الفلسفة نظراً مستقلاً عن العمل. لأن العمل يؤثر في النظر، من حيث أنه ينشئ استدلالاً جديداً في النظر واستشكالات في القضايا. وحين يكون النظر أخ العمل ولا ينفك عنه عند ذلك نقول أن الفيلسوف له الحق أن يحكم في السلوكيات وأن يحكم كذلك على الغيبيات.
لذلك لا نستغرب أن العالم الاسلامي لما تلقى الفلسفة أسماها الحكمة لأن الحكمة مخروطة بالعمل بشكل كامل بل تعد مرتبة،و ليست فقط مرتبة يتأطر فيها النظر بالعمل، بل يصبح العمل هو الذي يوجه النظر وليس العكس.
ونستطيع أن نقول بأن العمل هو ليس إلا جملة سلوكيات وهذه السلوكيات يمكن أن تكون موصوفة بالخير أو الشر أو الحسن أو القبح. وحين ذاك فإنها تعتبر داخلة في باب الأخلاق. إذن فكل سلوك يخضع أو يكون محط الحكم عليه بالخير أو الشر يعد خلقاً من الأخلاق. بمعنى آخر، أن الأفكار لابد أن تكون مصحوبة بالأخلاق حتى تحقق الفلسفة كما عاشها التراث الاسلامي، بل أقول أن بعض المدارس اليوناينة كالرواقيين كان تصورهم للفلسفة تصوراً عملياً، ونحن اليوم أحوج مانكون إلى استحضار هذا التصور العملي للفسفة لأسباب موضوعية موجودة في واقعنا، أي لايمكن أن ننشئ فلسفة بالنظر المجرد والواقع أمامنا يتحدانا بإشكالات وعوائق كبيرة ملموسة واقعية. بل نحتاج تجاوزها، ولايمكن تجاوزها بالفكر المجرد بل لابد من فكر قد انطبع وتشكل بالعمل تشكلاً كاملاً.
فالأخلاق على هذا الأساس ينبغي فيها مراجعة المسلمات التي بنيت عليها، لأن التصور للفلسفة كان تصوراً نظرياً والأخلاق كانت تعتبر لمحة نظرية، فإذا اعتبرنا أن الفلسفة من مقتضاها المنطقي أن تجمع بين العمل والنظر فمن الواجب مراجعة مسلماتها التي انبنت عليها الأخلاق، ومن هذه المسلمات:
أولاً: أن الأخلاق هي صفات كمالية يعني لا يضر فقدها الإنسان بل يمكن أن يستغنى عنها أحياناً بل هي بمنزلة ترف لا ننضر بعدم حصوله. ولكن الواقع ليس كذلك، لأن الأخلاق هي صفات ضرورية جوهرية يختل بفقدها ليس فقط نظام السلوك بل نظام الحياة، فلو تصورنا أن مجتمعا ليس فيه تمسك بالأخلاق والقيم سنعتبره مجتمع غير حي،أي لا حياة فيه.
ثانياً: تصور الأخلاق أنها صفات محدودة وأنها تشكل فقط جزء من السلوك الانساني، أن هناك أفعال نصفها بالأخلاق وأفعال لا نطبق عليها وصف الأخلاق وهذا كذلك غير مسلم ومعترض عليه. الأخلاق تشمل جميع أفعال الإنسان ابتداء من الفعل النظري; الفعل النظري فعل خلقي من حيث أنه يقتضي بموجب أن لنا بصر، فإذن يقتضي أن ننظر في المصلحة التي يجلبها لنا أو المفسدة التي يدفعها عنا، إنه بذلك الاعتبار يعتبر فعلا خُلقيا دافع للمصلحة.
كيف نستطيع أن نعتبر أفعال العقل هي أفعال خُلقية؟ يجب د. طه عبدالرحمن عن ذلك قائلا:
مادامت جميع أفعال الإنسان بما فيها أفعال العقل أفعال خلقية، فيلزم أن يكون العقل جزء من الأخلاق، بحيث يصبح العقل تابع للأخلاق. أي أن قابلية الأفعال النظرية والفكرية للتقويم الخُلقي هي مايجعل العقل تابعاً لمجال الأخلاق. بل أكثر من هذا، حيث أن التصرفات التي تعد تصرفات لا أخلاقية هي لا توصف على أنها تصرفات لاعقلانية بل توصف بأنها لا إنسانية، حين نقول بأنه تصرف لا أخلاقي فإنه يعتبر تصرف لا إنساني. أما حين نقول أنه تصرف لاعقلاني لا يلزم عنه أنه تصرف لا إنساني. فمثلا قد نقول هذا “إنسان” تصرف تصرفاً لا عقلانياً وليس هذا “إنسان” تصرف تصرفاً لا أخلاقياً. أي كلما زاد الإنسان أخلاقية اعتبرناه زيادة في انسانيته لكن لا نقول أنه كلما زاد في تقدم العقل زادت انسانيته، لأن زيادة تقدم العقل قد يضر بالإنسانية متى دمر هذا العقل الإنسان.
على ماذا يستند د.طه عبدالرحمن ليثبت أن الأصل في الأخلاق هو الدين، يجيب عن ذلك قائلاً:
أن ايمانويل كانت (كانط) علمن الأخلاق، أي فصلها عن الدين وأدخل عليها التعقيل -التحليل والتنظير- العقلي. وهذا لا يمنع أن الأصل في كثير من المفاهيم أن تكون دينية. ونحن نستطيع أن نجد ذلك -أي عقلنة الأخلاق- حياً اليوم في حياتنا مثلا: مفهوم ( التضامن) هو مفهوم أخلاقي ديني ولكنه الأصل فيه (الإحسان) عند المسيحين و (آلتراحم) عند المسلمين. فمبدأ (التراحم) أدخلت عليه الصفة العقلية ليصبح هو (التضامن). ومثال آخر: وهو مفهوم (المواطنة) هذا المفهوم هو علمنة لمفهوم (الأخوة). كانت هو في الحقيقة فصل الأخلاق عن الدين وهي موصولة أصلاً وفصلاً ليستجيب لمقتضى الحداثة و الأنوارية و مقتضى فكّر بنفسك ولا تنتظر وصاية أحد عليك. هي مسألة استيلاء العقل على أمور دينية وصرفها صرفاً عقلانياً.
لكن في الحقيقة هو أن الدين الأصل، لأن القيم الأخلاقية هي مُثل لاوجود لها في الواقع. لا هي وقائع ولا هي مجردات من الوقائع كما تجرد الكليات من الجزئيات. ولا أكتفي بالقول بأنها مُثل، بل هي معاني مشخصة في داخل الإنسان ليست مُثل في عالم خارج الواقع ومن هنا أقول بأن وظيفة الوحي كانت لخبرنا بوجود هذه المعاني وكيفية التصرف وفق هذه المعاني. ولماذا نقول أن هذه هي وظيفته بالضبط؟ لأن الوحي لم ينزل إلينا ليخبرنا عما يستطيع العقل أن يصير إليه مثلاً من حقائق كونية بل جاء ليخبرنا بالحقائق المعنوية التي فُطرنا عليها والتي ينبغي أن نسلك حياتنا وفقها، حيث أن وظيفته ليست التعريف بالكونيات -الملكيات- بل التعريف بالآيات -الملكوتيات- يعني القيم الأخلاقية التي هي آيات أُودعت في نفس الإنسان بإرادة الله سبحانه وتعالى.
للإستزادة:
مسارات:في الفلسفة والأخلاق
سؤال الأخلاق – طه عبدالرحمن