من ضحكة جاء العالم
يكاد العالم بأجمعه وبمختلف أزمنته يتفق على خفة دم المصريين، والنكتة لا تغيب شمسها عن مصر وتحضر على الدوام، شعاعها يتوهج بالظروف الصعبة قبل الأيام المستتبة يجسد ذلك المشهد ما رأيناه ولا زلنا في ثورة يناير سنة 2011 وعن الكم الهائل من الشعارات التي تحلت بالطابع الفكاهي، أو مواقف طريفة انتشرت في الاعلام عموماً من قبل الشعب الرحيب الصدر، ويسبق ذلك (أحمد فؤاد نجم) و(الشيخ إمام) الذي استعمل النكتة السياسية في غنائه.
بعد هزيمة حرب يونيو سنة 1967 والذي تم استلهامها من الشاعر (بديع خيري) و(سيد درويش) الذي قام بتوظيف فنه للقضية السياسية وحال الشعب المصري آنذاك بسلاح الدعابة أيضاً، لتأتي (موسوعة الفكر السياسي عبر العصور) تؤرخ لنا تأصيل هذه الميزة لدى الشعب المصري فيستوقفنا منها:
ولعل سخرية المصريين من السلطة الحاكمة واستهزائهم بها , أقوى وأوضح وسائل تعبيرهم عن معارضتهم لها وموقفهم السلبي منها، وهي وسيلة تبدو متجذرة تاريخياً في الروح المصرية ومنطقها الحضاري الاجتماعي، بل والديني أيضاً ويعلل بعض الباحثين ذلك باعتقاد المصريين القدماء، أن الضحك هو الذي خلق العالم. فحين أراد الإله الأكبر خلق العالم، أطلق ضحكة قوية فخلق أرجاء العالم السبع، وبضحكة أخرى خلق النور، وبالثالثة خلق الماء، وهكذا حتى خلق الروح بضحكته السابعة، فالضحك إذاً، ووفقاً لهذا المنطق، فعل خلق إيجابي، أي أنه قادر على الفعل، فلعل المصريين القدماء اعتقدوا ان سخريتهم من الحاكم وضحكهم عليه يمكن أن يكون له نفس مفعول الخلق الذي كان لضحكات الإله، فيخلعونه بسخريتهم، ويغيرونه ويتخلصون من شره بالضحك منه وعليه، فعارضوا السلطة بالتشهير الخفي الساخر والنكتة المبطنة ذات المضمون السياسي، واتقوا شرها وتجنبوا أذاها في ذات الوقت. وإذا كان المصريون القدماء قد ترددوا في تسجيل سخريتهم من فراعنتهم الذين كانوا بالنسبة لهم ملوكاً وآلهة مقدسين في آن واحد، فإنهم تجاوزا ذلك التردد في معارضتهم لحكامهم الأجانب، الذين سخروا منهم كلما أتيحت لهم فرصة لذلك، وقد لاحظ الرومان الأثر السلبي لسخرية المصريين من سلطتهم ومؤسساتهم، فمنعوا المحاميين المصريين من دخول محاكم الإسكندرية لسخريتهم من القضاء الروماني، وضمت البرديات المصرية القديمة بعض الرسوم الساخرة المنطوية على نقد للأوضاع السياسية والاجتماعية، حيث أظهرت تلك الرسوم الحيوانات وهي تتصرف نيابة عن البشر، فصورة الفئران وهي تهاجم قلعة القطط، ترميز لغزو الهكسوس “الفئران” لمصر “القطط” حيث كان القط حيواناً مصرياً مقدساً، وأحد رموز آلهتها وفراعنتها، وعبرت رسوم أخرى عن فساد الأوضاع عندما صورت الأشياء معكوسة كصورة القط وهو يرعى قطيع الإوز، والذئب يحرس الأغنام، والمعنى الساخر والمقلوب واضح في هذه الرسوم، وبذلك استبدل العقل والسلوك المصريين، المعارضة العملية المباشرة للسلطة والنشاط الفعلي الهادف إلى تغييرها وكل تفكير صريح بهذا الخصوص، بسلوك معارض غير مباشر، كان له وجهان إيجابي وسلبي، بما يتفق والحاجة لأحداث التغيير السياسي والمساهمة فيه من جهة، وتجنب أذى السلطة وعقابها من جهة ثاني.
وهذه إحدى أغاني (سيد درويش) التي جاءت بالنسق الفكاهي: