من أين تأتي العدميّة؟ نانسي هيوستن تجيب
في كتابها (أساتذة اليأس) كتبت (نانسي هيوستن)، الكاتبة الفرنسية الكندية، عن النزعة العدميّة في الأدب الأوروبي. تقول (هيوستن) في ذلك:
تطوّر الفكر الأوروبي منذ قرنين من الزمان في اتجاهين متضادّين ظاهرياً:
- الطوباية l’utopism
- و العدميّة le nihlisme ؛ الموقف الثوري و الموقف الكلبيّ cynique
تيّار “الخيار هو” و تيّار “ما من خيار“.
و يرى الطوباويّون أنه إذا قيّض للمرء أن يكون مثقفاً فإن عليه أن يضع ذكاءه في خدمة الثورة من أجل عالم أفضل. أما العدميّون فيرون أنه نظراً لأن كل أفعال الإنسان عبثية و أن كلّ الآمال محكومة بالفشل فقد يكون من الأجدر الانتحار على الفور، و إلا فالحل هو اللجوء إلى الكتابة. الجماعة الأولى تتشبّث ببناء المستقبل المشرق، فيما تُصر الجماعة الثانية على أن تقذف بنا مباشرة إلى الظلمات. أولئك يقولون: لابد من تكسير البيض كي نصنع العجّة و هؤلاء يُؤكدون ألا شيء يستحق العناء، لا البيض و لا العجّة، إذ لا أحد يشعر بالجوع أصلاً. نحن، هنا أمام بنية واحدة و الحقيقة أن ثمّة تواطؤاً وتكاملاً بين الموقفين، و سواءً تأسّسا على ” الكلّ” أم على ” اللاشيء“، فإن السبب المهمّ و الأكبر في نجاحها لدى الجمهور هو طبيعتهما “المطلقة”إن المعاني المتخلفة لكلمة ” العدميّة ” ذاتها توضّح الصلة بين هذين الضدّين، ففي روسيا القرن التاسع عشر لم تكن الكلمة تشير إلى اليائسين الذين ماعادوا يكترثون لشيء، بل إلى الراديكاليّين الذين كانت عقيدتهم تتمثّل في سؤال (تشيرنيشفسكي): “مالعمل؟”
و كان خصمهم العنيد هو (فيدور دوستويفسكي). كان صاحب “يوميات في منزل الأموات” ثورياً في شبابه و لم يكن بوسعه كما يقول كاتب سيرته (جوزيف فرانك)، إلا أن يرتجف و هو يرى “الشباب المثاليّين، أصحاب القلوب البريئة، يسلكون الطريق الخطير الذي كان قد قاده إلى سيبيريا. لم يكن ليستطيع أن يشاهد، بلا ردّة فعل، تسابق كلّ أولئك الشباب نحو الكارثة و هم يرقصون بكلّ مافيهم من حماس و إخلاص على أنغام ناي العدميّة الساحر“.
و لهذا تُفضّل هيوستن – في معظم الأحيان – استبدال كلمة “عدميّ” بالكلمات:
سلبيّ negativiste، تدميري neantiste ، melanomane ، لوصف مذهب أساتذة اليأس الحديثين.
هيوستن لا ترى أن الأدب ينبغي له أن يكون مرِحاً، بهيجاً، و مفعماً بالأمل بالطّبع و في ذلك تقول:
إنّ الفن في حدّ ذاته، و ربما الأدب بوجه خاص، رفضُ للعالم القائم، و تعبيرُ عن النقصان و عن قلق الوجود. إن من يشعرون بالراحة لأحوالهم و يعشقون الحياة عموماً و يرضون عن حياتهم خصوصاً لا يحتاجون أبداً لاختراع عالم وازٍ عن طريق الكلمات. كما يُمكن وصف الكثير من الروايات المعاصِرة – و من بينها روايات، كثيراً ماقيل لي ذلك – بأنها قاتمة و متشائمة و سوداء أو مثبّطة للعزيمة، دون أن تكون قد ارتكزَت على مسلّمات العدميّة.
و هذه المسلّمات هي باختصار:
1. النخبويّة و الأنانَة solipsisme.
2. الاشمئزاز من الأنثويّ الذي يمثل الوجود الجسدي و الحسيّ.
3. احتقار الحياة الأرضية.
و من ثمّ جاء عصر الأنوار les Lumieres وانقلبت البنى السياسية و الدينيّة التي كانت قد طمأنت، في المجتمعات التقليدية، كل فرد على موقعه في هذا العالم … و لكن لسوء الحظ، ساءت الأمور عوض أن تتحسّن، وانهار ذلك الأمل بدوره مع فضل ثورة 1848. عندها، شهدنا مع فلوبير و بودلير ( كلاهما ولد في العام 1821 و بلغ سنّ النضج مع منتصف القرن )، ولادة العدميّة الحديثة. و لعل قصيدة بودلير ” الهاوية” تلخّص أروع تلخيص الأطروحات الأساسية لتلك الفلسفة و مطْلعها:
كان لباسكال هاويته التي تتنقّل معه.
– ياللأسف! كل شيء هاوية، الفعل والرغبة و الحلم
و الكلمات! و على شعر جسدي الذي يقف تماماً
أحسّ ريح الخوف تسري مرَات و مرَات
……ثم سارت الأمور جميعها على نحو بدا فيه أن الحاجة إلى الاستقلالية السياسية التي كانت تبشر بها الحداثة قد انعكست على بنية الإنسان النفسية و الاجتماعية.
أقام الفلاسفة الأوروبيون كمثال للكائن البشري إنساناً مستوحداً، عقلانياً و مكتفياً بذاته autosuffisant.
و بدءًا من العام 1880 و مع النجاح المذهل لفلسفة (آرثر شوبنهاور)، استقرّت العدمية في الموقع الذي لم تغادره منذ ذلك الحين: موقع أقوى مدرسة فكريّة في أوروبا الغربيّة.
و في القرن العشرين، تسارع ” زوال سحر العالم” فلقد كشفت العلوم الحديثة – نظرية التطور، وعلم الجينات، وعلم الاجتماع و التحليل النفسي عن الدور الذي تلعبه قوىً لا سيطرة لنا عليها في التكوين النفسي لذواتنا الفردية العزيزة…
أمّا عن الحداثة فقالت:
لقد قلبت الحداثة المعطيات التي دامت لآلاف السنين. فوُلد المواطن و ماصحب ذلك من حقوق، و توسّع مفهوم الفرد تدريجياً و لكن على نحو حتميّ إلى أن شمل النسا و لعبيد و المستعمرين السابقين، وجاءت الثورة الصناعية، و المدرسة المجانيّة و الإلزاميّة و تطوّرت العلوم وتحسّنت أدوات البناء و طبعاً ( أدوات التدمير في الوقت نفسه ) …
و علاوةً على نزعة التحديث و تحرّر النساء، هنالك عامل ثالث حسَم ظهور التيار العدميّ في أوروبا الفرن العشرين، ألا وهو صدمة الحرب العالميّة الثانية.
لقد أدت المجازر؛ ذلك الإنتاج الصناعي للموت، بالضرورة إلى فكرة أن الحياة عبثية فمن المستحيل تأمل تلال من الجثث و مواصلة الشعور بالحماية من خلال فكرة وجود إله أو الإيمان بمصير فردي، أو معنى متعالٍ transcendante.
كان قد سبق لمذبحة الحرب العالمية الأولى المجنونة أن قادت في مجال الأدب إلى عدمية الدادائيين الساخطة، و إلى شتائم كاتب مثل سيلين و لكنها كانت حرباً؛ على الأقل إذ كان الأمر يتعلّق بمعارك، و إن كانت واسعة النطاق و طاحنة على نحو مأساوي مطلق.
أما في الحرب العالمية الثانية، فمع وصول الأنظمة التوتاليتارية و ماقامت به من مذابح لا سابق لها في التاريخ، و مع التدمير الجنوني لأرواح البشر، بالملايين لا بالآلاف و مع غرف الغاز و القنبلة الذرية و كوليما و أوشيفتز و هيروشيما و ناغازاكي، كفّ معظم الكتاب الأوروبيين عن الاعتقاد أن الأدي يمكن أن يساعد على فهم العالم و العيش فيه، و باتوا متشكّكين إزاء كل شيء، بدءاً من اللغة والسرد.
لقد أضرمت النازيّة ناراً في قلب أوروبا نفسها. وكانت نتيجة الثقافة الرفيعة – الكتب الجميلة، والإفكار الجميلة، والفنون الجميلة و المبادئ الرائعة- التي صيغت بكل أناة، عبر قرون طويلة، ذلك الرّعب.
وبدَت العدميّة التي كان من الممكن أن تبقى مجرّد موضة أدبيّة وفلسفيّة، للكثيرين، فجأة و كأنها حقيقة الشّرط الإنساني.