منطق المتعصبين عند علي الوردي
علي حسين الوردي ( ١٩٩٥-١٩١٣ م ) عالم اجتماع عراقي، أستاذ ومؤرخ عُرف باعتداله وموضوعيته وهو من رواد العلمانية في العراق. ولد في بغداد عام ١٩١٣ م، ترك مقاعد الدراسة في عام ١٩٢٤ م ليعمل صانعاً عند عطار ولكنه طرد من العمل لانه كان ينشغل بقراءة الكتب والمجلات ويترك الزبائن وبعد ذلك فتح دكان صغير يديره بنفسه.
حصل على البكالوريوس من الجامعة الأمريكية في بيروت، والماجستير والدكتوراه من جامعة تكساس في عام ١٩٥٠م. قال له رئيس الجامعة عند تقديم الشهادة له: “أيها الدكتور الوردي ستكون الأول في مستقبل علم الاجتماع“.
ألّف (الوردي) العديد من الكتب من أبرزها: (وعاظ السلاطين)، (مهزلة العقل البشري)، و(خوارق اللاشعور) والعديد من الكتب الأخرى.
انتقد (الوردي) رجال الدين وتعصبهم المذهبي في الطرح في ظل ادعائهم المنطقية والبحث عن الحق والحقيقة، فقال في بداية فصل (منطق المتعصبين) أحد فصول كتابه (مهزلة العقل البشري):
صدر من عهد قريب كتاب يبحث في حادثة من حوادث التاريخ الإسلامي طبق ما ترتئيه طائفة دينية معينة. وكتب أحدهم مقدمة للكتاب قال فيها:
“أما الكتاب فقد وفق في عدة نواحي، وفق في نظرته لبحثه نظرة موضوعية خالصة لا يلمس فيها للمؤلف أية عاطفة ولا يدرك له فيها أي تحيز. وإذا قدر له أن ينتهي في بحثه إلى حيث تنتهي عقيدته المذهبية فليس ذلك إلا لأن منهجه العميق انتهى به إلى هذه النهاية…”.
فالمقدم ينسب لمؤلف هذا الكتاب النظرة الموضوعية الخالصة المجردة من أية عاطفة مذهبية. ثم يعود ليقول بأن هذه النظرة الموضوعية هي التي انتهت بالمؤلف إلى تبيان صحة عقيدته المذهبية. أي أن المؤلف لم يكن قاصداً منذ البدء أن يبرهن على صحة هذه العقيدة، إنما جاء البرهان من تلقاء نفسه حيث كان المؤلف يتبع في بحثه المنهج العلمي الدقيق.
والمنطق الحديث يصف مثل هذا الكلام بالخرافة. فالمتدين المؤمن بعقيدة من العقائد لا يستطيع، مهما حاول أن يتجرد من عاطفته المذهبية وقد يظن المؤمن أنه متجرد من العاطفة، ولكن ذلك من قبيل الأوهام التي لا أساس لها من الحقيقة.
إن من شرائط المنهج العلمي الدقيق أن يكون صاحبه مشككاً حائراً قبل أن يبدأ بالبحث. أما أن يدعي النظرة الموضوعية وهو منغمس في إيمانه إلى قمة رأسه فمعنى ذلك أنه مغفل أو مخادع.
حين يدافع الانسان عن عقيدة من عقائده المذهبية يظن أنه إنما يريد بذلك وجه الله أو حب الحق والحقيقة. وما درى أنه بهذا يخدع نفسه. إنه في الواقع قد أخذ عقيدته من بيئته التي نشأ فيها. وهو لو كان قد نشأ في بيئة أخرى لوجدناه يؤمن بعقائد تلك البيئة من غير تردد ثم يظن أنه يسعى وراء الحق والحقيقة.
وهنا يتحدث عن محدودية النطاق الذي يفكر من خلاله الانسان متأثراً بتقاليد البيئة التي ينشأ فيها:
يصف القرآن عقول الناس بأنها مغلقة وأنها عمياء ويؤكد على ذلك في كثير من آياته. وهو يقول: «… فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور » ويقصد القرآن بالقلوب العقول كما يعرف ذلك كل متتبع لأساليب اللغة العربية.
وكان القرآن يهيب بالناس ويهتف بهم المرة بعد المرة قائلاً لهم: ألا تفكرون . . . ألا تعقلون . . . ألا تبصرون. والناس يسمعون هذا ولا يفهمون .
إن ما وصف القرآن به عقول الناس يشبه إلى حد بعيد ما اكتشفه العلم الحديث من طبيعة العقل البشري. فالعقل البشري مغلف بغلاف سميك لا تنفذ إليه الأدلة والبراهين إلا من خلال نطاق محدود جداً وهذا النطاق الذي تنفذ من خلاله الأدلة العقلية مؤلف تقاليد البيئة التي ينشأ فيها الانسان في الغالب. وهذا هو ما أسميته في أحد كتبي السابقة بالإطار الفكري.
لعلنا لا نخطئ إذا قلنا: إن الانسان كلما ازداد تجولاً في الآفاق واطلاعاً على مختلف الآراء والمذاهب انفرج عنه الإطار الفكري الذي نشأ فيه واستطاع أن يحرر تفكيره من القيود قليلاً أو كثيراً.
وكلما كان الانسان أكثر انعزالاً كان أكثر تعصباً وأضيق ذهناً.
فالذي لا يفارق بيئته التي نشأ فيها ولا يقرأ غير الكتب التي تدعم معتقداته الموروثة لا ننتظر منه أن يكون محايداً في الحكم على الأمور. إن معتقداته تلون تفكيره حتماً وتبعده عن جادة البحث الصحيح.
وهذا أمر شاهدناه بوضوح في المرأة فعندما حجزناها في البيت وضيقنا عليها أفق التجوال والاختلاط صار عقلها ساذجاً إلى أبعد السذاجة. ومن هنا جاء قول القائل بأن عقلها يساوي نصف عقل الرجل. لقد وجدنا المرأة الغربية تكاد اليوم تنافس الرجل في بُعد النظر وسلامة الرأي. وسبب ذلك راجع إلى انطلاقها الجديد حيث أخذت تعمل وتسافر وتدرس كما يفعل الرجال تماماً.
يذهب بعض المفكرين إلى القول بوجوب حجر المرأة في البيت وتشديد الحجاب عليها وذلك بحجة أنها ذات عقل ناقص لا تستطيع به أن تحمي نفسها من نزوات العاطفة، نسوا أن عقلها لم ينقص إلا من جرّاء الحجاب. فهم سببوا ضيق عقلها بالحجاب، ثم أرادوا حجابها بدعوى ضيق عقلها. خلقوا السبب بالأمس ويريدون اليوم أن يتخذوا نتيجة هذا السبب حجة له.
يصنف (مانهايم) المفكرين من حيث التحرر الفكري إلى صنفين رئيسين:
(١) فالصنف الأول وهو ما أطلق عليه مانهايم «المقيد اجتماعياً». وينتمي إلى هذا الصنف عامة الناس، إذ هم لا يخرجون في تفكيرهم عن الإطار الذي قيدهم المجتمع به.
(٢) أما الصنف الثاني فهو «المتحرر اجتماعياً» وينتمي إليه أولئك الذين استطاعوا أن يجوبوا الآفاق ويطلعوا على مختلف أوجه النظر، فتحررت أذهانهم من جرّاء ذلك.
وجّه بعض المناطقة انتقاداً شديداً إلى مانهايم هم يرون أن ليس بإمكان أحد مهما كان، أن يتحرر من قيوده الفكرية تحرراً تاماً لا شوب فيه. وهذا انتقاد صحيح. فالتحرر المطلق غير ممكن، هذا ولكن الانسان قادر أن يتحرر بفكره تحرراً نسبياً. والمفكرون المتحررون يتفاوتون الدرجة التي يستطيعون بها التخلص من تقاليد بيئتهم. وكلما أمعنوا في هذا التخلص ازدادوا إبداعاً وتمهد لديهم طريق البحث السليم .
خلاصة الأمر: إن المنطق القديم يصلح لزمان مضى ولا يصلح لهذا الزمان الذي نعيش فيه. فقد كان الانسان في الماضي لايخرج من بيئته التي نشأ فيها إلا نادراً، وكان السفر آنذاك «قطعة من سقر» كما وصفوه في أمثالهم الدارجة.
أما اليوم فقد أصبح السفر نزهة يرتاح الانسان فيها أكثر مما يستريح في بيته وبين أهله وخدمه .