كل فقدٍ تمر به يظهر به معدنك: عن الموز الأزرق، ولماذا تغير أوراق الشجر ألوانها، وعن السر المسترسل ليخضور الأشجار
"نحن نمد يدنا ونجهد كل عصب ، لكننا نلتقط القليل فقط من الستارة التي تخفي اللامتناهي عنا."
إن الخريف فصل التناقض الوجداني، وفصل التصالح، وهو فرصة سانحة لتوطين أنفسنا بشأن الفناء الذي ينتظرنا جميعاً، فهو مثل حجرة بإضاءة خفيفة نصغي فيها بحميمة أكثر إلى إيقاع نبرة اللوعة والبهجة المتأخر الذي يرقم حيواتنا غير المتوقعة والمحدودة. إن كل شق أصفر في الخيمة السوداء ليلًا فوقنا يذكرنا بأن كل شيء جميل على هذه الأرض فانٍ. كل ورقة تسقط كل مرة هي صلاة جنازة على فنائنا الشخصي، وهي أيضًا لحن مطرب مُعطى إلى مقام هدية العيش الممنوحة دون أن نطلبها على الإطلاق. وإن ثنائية الوعي هذه، بعد كل هذا، نذيرة بحسن طالع فكرة أن نموت.
لكن الخريف أيضا فصل كشف، من حيث أن الفقد الظاهري يكشف عن حقيقة شاسعة: اليخضور (الكلوروفيل) في النباتات هو قوة حيوية لكنها في الوقت ذاته رداء ترتديه النباتات، وعندما تذهب به الشجرات من أوراقها، يتكشف لون الطبيعة الحقيقي.
إن التمثيل الضوئي أو البناء الضوئي الذي تقوم به النباتات هو طريقة الطبيعة في صنع حياة من الضوء. اليخضور يسمح للشجرة أن تلتقط الفوتونات (الجزئيات الضوئية)، مستخلصة جزءًا من طاقتها لصنع السكريات التي تجعلها شجرة، المادة الخام للأوراق واللحاء والجذور والغصون، ومطلقة الفوتونات ذات البعد الموجي المنخفض إلى الفضاء.
مع أن العقل البشري لا يزال محتارًا بسبب سقوط ورق الأشجار وتغير لونها منذ أيام (أرسطو)، فاليخضور الذي يشترك في خصائصه مع اليحمور (الهيموجلوبين) في دمائنا -يث اكتشفت هذه المادة وسميت في سنة 1817 عبر الصيدلي الكيميائي الفرنسي (ديو جوزيف بينيامين كافينتو) ورفيقه (بيير جوزيف بيليتير). حيث قاما بلمسة إنسانية لطيفة يظهر فيها الفرق بين المكتشف والعالم، فالمكتشف، يكون متحمسًا لتسمية الأرض والمعالم التي قد اكتشفها باسمه، على خلاف ما قاما به وكتباه في ورقتها الأثيرة:
ليس لدينا حق لتسمية مادة عُرفت منذ عهد بعيد، وللقصة التي توصلنا إليها هذه بعض الحقائق: مع أننا، سنقترح، دون أن نؤكد على أي أهمية، اسم الكلوروفيل، من كلمة كلورو، اللون، وما يُلفظ باليونانية الفيلو، ورقة شجر: اسمًا يمكن أن يشير إلى هذا الدور الذي تلعبه هذه المادة في الطبيعة.
لكن الكلوروفيل، والذي لا زال يحتاج لفهم أكمل، ليس مجرد صبغ في الأشجار. فعبر عمر ورقة الشجر، هنالك أربع فترات تمر عليها بأصباغ مختلفة لخلاياها: الأخضر للكلوروفيل، والأصفر للزانثوفيل، البرتقالي للكاروتينودز، والأحمر والبنفسجي للأنثوكاينين.
أثناء الربيع والصيف، عندما يطول النهار ويشع، تتشبع الأوراق بالكلوروفيل وذلك حينما تنهمك الشجرة في تحويل الفوتونات إلى حلاوة النمو الجديد.
وفي الخريف عندما يذوي النهار ويقصر فيبرد الهواء، تستعد الشجرة العارية للشتاء وتتوقف عن صنع الغذاء، تتوقف عن التوسع في طاقة الأيض المكلفة في ظل أيام ذي مسغبة من أشعة الشمس. وتفكك الأنزيمات الكلوروفيل المستخرج، سامحة بذلك للأصباغ التي كانت ظاهرة لأن تخبو. ولأننا نحن البشر نلحظ بسهولة أي مجاز يعبر عن حياتنا العاطفية، كيف لا يمكن أن يكون كل هذا تذكرة لنا بشأن كل فقد يُظهر طينتنا، وأن يكون تأكيداً لقيمة الانكسار الخريفي لأعمارنا؟
تجري عملية مشابهة لهذا عندما تستوي الفواكه من الأخضر إلى ظلال متعددة من الأحمر، البنفسجي، البرتقالي أو الأصفر.
بعد قرنين من اكتشاف الكلوروفيل، توصل جيل جديد من العلماء مسلحٌ بعتاد من الأدوات التي لا يمكن تصورها في ١٨١٧م، فبطريقته الدؤوبة يكشف العلم طبقاً عن طبق وهو يتخلى عن فرضياته العتيقة، عن أسرار جديدة تتعلق بالموز، فلون الموز في فترات متعددة من نضوجه عندما نكشف عليه تحت الأشعة فوق البنفسجية نجد أن اللون الأصفر المفضل لدى العالم ينضج في وقت ما عندما يكون فيه والكلوروفيل على وشك أن يتفكك، فيظهر الأصفر الناتج عن الزانثوفيل، وينتج عن هذا التحول إطلاق لون الفلوراسنت الأزرق المركب الآتي من كاتوبلايت الاتش ام اف سي سي.
في بحث لاحق وُجد أن إشارات من هذه التصبغات الزرقاء في نبات اللبلاب الشيطاني، أو نبتة البوثوس دائمة الخضرة والتي تزدهي في زاوية مكتبتي في بروكلين في هذه اللحظة، تجسد غموض الكلوروفيل باستمرار وتملأ القلب البشري بالابتهاج. كم هو مدهش أن نفكر أن شيئًا اكتشفناها قبل قرنين مضت، شيئًا وُجد في الطبيعة منذ ملايين السنوات الماضية عندما تطورت أولى النباتات الخضراء من خلايا بدائية النواة، لا يزال يشع بالغموض، جزئيات عالم مصغر من الدهشة المطلقة: المعرفة التي على أي حال كان من الممكن كشفها حتى الآن، ولن تنفك الطبيعة عن أن تكون متخمة بالحصاد اليانع الذي يفاجئنا. وكم هو مُسعد أن نفكر بأننا كائنات حية تقوم بكل ما في وسعها لتقيم معنى للعالم في حدود إمكانيات عقولنا المحدودة، كائنات حية تتطور بصيرتها لتختلس النظر نحو حزمة من ييف الخلق الدقيق، في مدى الطول الموجي المنمنم بين الأحمر والبنفسجي، و هو مع هذا عمٍ عن كل مدى ممتد بين الموجات الراديوية والأشعة الكونية، أعمى عن الأشعة فوق البنفسجية. لكننا لو كنا فراشات أو أيائل، نحلات أو سلمونات حمراء، لربما كان لون الموز في أعيننا أزرقاً.
في ملاحظتها والتقاطتها الشاعرية كأفضل ما يكون من الرثاء والتداعي تقول عالمة الفلك (ماريا ميتشل) “أن لدينا جوعاً عقلياً يتوق للمعرفة في كل ما حولنا، وكلما حصلنا على المزيد، كلما رغبنا بالمزيد،” ومع هذا “فإننا نواصل ولأقصى عصب مشدود فينا، لكننا مع هذا نصل إلى حيز محدود من الستار الذي يغطي كل شيء لا نهائي عنا.” فما نعلمه عن أنفسنا وعن الكون هو أقل القليل عما هو في حقيقته.
ترجمة: علي الضويلع
مراجعة وتحقيق: صبا بادغيش
[المصدر]