كارل بوبر يشرح وينتقد المذهب التاريخي
كارل بوبر (1902-1994) كاتب وفيلسوف انجليزي نمساوي، من أبرز المُهتمين بمجال فلسفة العلوم، ومناهج البحث العلمي، بالاضافة الى العلوم السياسية والاجتماعية. دَرس (بوبر) الرياضيات، والفيزياء، وعلم النفس، والتاريخ، والفلسفة، كما عمل مدرساً في جامعة لندن. و أشتهر (بوبر) بعدائه للأفكار الفاشية والشيوعية.
وهو في كتاب (بؤس الأيدلوجيا، نقد مبدأ الأنماط في التطور التاريخي)، يوجه نقد لاذع لمذهب يُتبع في دراسة العلوم الاجتماعية، وهو المذهب التاريخاني، حيث يرى بوبر أن هذا المذهب مُلهم للأفكار الفاشية والشيوعية. عرّف (بوبر) هذا المذهب، ثم عرض دعاويه وقام بتفنيدها. من أهم الدعاوي التي قام (بوبر) بتفنيدها هي الدعوى القائلة بوجود قوانين يسير التطور التاريخي وفقًا لها.
بَدء (بوبر) كتابه بقول:
لذكرى أعداد لا تحصى رجالًا ونساءً وأطفالًا ينتمون إلى سائر العقائد والأمم والأعراق، سقطوا ضحايا الاعتقاد الفاشي، أو الشيوعي، بأن ثمة قوانين لا مهرب منها للقدر التاريخي.
ثم قام بتعريف المذهب التاريخاني:
التاريخانية هي طريقة في معالجة العلوم الاجتماعية تفترض أن التنبؤ التاريخي هو غايتها الرئيسية، كما تفترض إمكانية الوصول الى هذه الغاية بالكشف عن القوانين أو الاتجاهات أو الأنماط أو الإيقاعات التي يسير التطور التاريخي وفقا لها.
ويمكن تلخيص برهان (بوبر) على عقم المنهج التاريخاني بخمس أمور،
١. يتأثر التاريخ الإنساني في سيره تأثراً قوياً بنمو المعرفة الإنسانية.
٢. لا يمكن لنا، بالطرق العقلية أو العلمية، أن نتنبأ بكيفية نمو معارفنا العلمية.
٣. إذن فلا يمكن التنبؤ بمستقبل سير التاريخ الإنساني.
٤. وهذا معناه أننا يجب أن نرفض إمكان قيام تاريخ نظري؛ أي إمكان قيام علم تاريخي اجتماعي يقابل علم الطبيعة النظري.
٥. إذن فقد أخطأ المذهب التاريخاني في تصوره للغاية الأساسية التي يتوسل إليها بمناهجه؛ وببيان ذلك يتداعى المذهب التاريخاني.
لا يرى (بوبر) استحالة التنبؤ في جميع العلوم الاجتماعية، فيمكننا في علم الاقتصاد مثلاً أن نتنبأ بأحداث معينة نتيجة شروط معينة، ونبني ذلك على أساس نظريات اقتصادية، إنما تبين البراهين السابقة “استحالة التنبؤ بالتطورات التاريخية الى الحد الذي يؤثر بنمو معارفنا“.
ذكر (بوبر) مهمة عالم الاجتماع في نظر المذهب التاريخاني.
في رأي التاريخيين أن علماء الاجتماع يجب أن يحاولوا صياغة الفروض الخاصة بالاتجاهات العامة القائمة فيما وراء التطور الاجتماعي، حتى يستعد الناس لاستقبال التغيرات الوشيكة الوقوع باستنباط النبوءات من تلك القوانين.
يرى المذهب التاريخاني أنه إذا كان من المُستطاع لعلماء الفلك التنبؤ بحوادث فلكية، بناءً على نظريات علمية، فأنه إذن في مقدور عالم الاجتماع أن يكتشف (قوانين التعاقب الطبيعية) للتنبؤ بتطور التاريخ الإنساني.
لقد تأثر التاريخيون المحدثون تأثرًا عظيمًا بنظرية (نيوتن)، وخاصة بما لها من قدرة على التنبؤ بمواضع الكواكب السيارة بعد زمان طويل. وقد رأوا في إمكان مثل هذه التنبؤات البعيدة المدى ما يدل على أن الأحلام التي راودت الناس قديمًا عن إمكان التكهن بالمستقبل البعيد لم تكن تفوق حدود العقل الإنساني. وفي رأيهم أن العلوم الاجتماعية لا ينبغي أن تهدف إلى ما هو أدنى من ذلك. فإذا كان من الممكن لعلم الفلك أن يتنبأ بظواهر الكسوف، فلم لا يمكن لعلم الاجتماع أن يتنبأ بالتطورات الاجتماعية.
ثم بين (بوبر) أن الرأي الذي يعتبر المجتمع متنقلًا في سلسلة من الفترات المتعاقبة، القائل بوجود (قوانين التعاقب الطبيعية) هو نتيجة خلط صادر عن تطبيق خاطئ للمصطلحات الفيزيائية على الميدان الاجتماعي. ويتضح ذلك في هذه العبارة التي تعبر عن هذا الرأي
“ليست المدنيات حالات ساكنة للمجتمع وإنما هي حركات ديناميكية من نوع تطوري وهي ليست فقط عاجزة عن التوقف بل انها لا تستطيع ان تعكس اتجاه دورانها دون ان تخرج عن قانون حركتها“.
تجتمع في هذه العبارة فكرة الديناميكا الاجتماعية (المعارضة للاستاتيكا الاجتماعية)، والحركات التطورية للمجتمعات (تحت تأثير القوى الاجتماعية)، وفكرة الاتجاهات (والمسارات والسرعات) المنسوبة الى هذه الحركات التي يقال انها لا يمكن عكسها دون الخروج على قانون حركتها). وهذه الالفاظ (المكتوبة بين قوسين) منقولة كلها من علم الطبيعة الى علم الاجتماع، وقد كان استخدامها سببًا في ظهور سلسلة من الآراء الخاطئة المدهشة في مراهقتها. ولكنها من خصائص ذلك التقليد الأعمى لعلم الطبيعة وعلم الفلك.
نوع المجتمع الذي يعتبره عالم الاجتماع ((استاتيكيًا)) يماثل تمامًا نوع المجموعات الفيزيقية التي يعتبرها عالم الطبيعية ((ديناميكية)) (وإن كانت موقوفة stationary). ولنا في المجموعة الشمسية مثال نموذجي على ذلك، فهي على المجموعة الديناميكية بالمعنى الذي يقصده عالم الطبيعة، ولما كان لها طابع تكراري (أي موقوفة على حال واحدة تتكرر مرة بعد أخرى)، ولأنها لا تنمو ولا تتطور، ولأن بنيتها لا ينالها أي تغير، لكل هذه الأسباب فهي تماثل من غير شك تلك الأنساق الاجتماعية التي يعتبرها عالم الاجتماع ((استاتيكية)).
وهذا يُبطل الرأي الذي يستدل بنجاح التنبؤات الفلكية على إمكانية التنبؤ بالتاريخ الانساني.
لهذا الأمر أهمية كبرى فيما يتعلق بدعاوي المذهب التاريخاني، من حيث أن نجاح التنبؤات البعيدة المدى في علم الفلك إنما يعتمد كل الاعتماد على ما للمجموعة الشمسية من طابع تكراري، أو استاتيكي بالمعنى الذي يقصده عالم الاجتماع – أي أن نجاح التنبؤات معتمد في هذه الحالة على اهمالنا لكل عوارض التطور التاريخاني. إذن فنحن مخطئون من غير شك إذا افترضنا أن هذه التنبؤات البعيدة المدى، الخاصة بمجموعة ديناميكية موقوفة، تصلح أن نستدل بها على إمكان النبوءات التاريخية البعيدة المدى، الخاصة بالأنساق الاجتماعية الغير موقوفة.
“إن تطور الحياة على الأرض، أو تطور المجتمع الإنساني، عملية تاريخية فريدة”
لا يمكن أن تُسعفنا مشاهدة العملية الواحدة الفردة من التنبؤ بمستقبل تطورها. فنحن مهما بذلنا من عناية في مشاهدة نمو يرقة واحدة، فلن يساعدنا ذلك على التنبؤ بتحولها فيما بعد إلى فراشة. وهذه الحجة من حيث انطباقها على تاريخ المجتمع الإنساني، قد صاغها هـ.أ. فيشر في الألفاظ الاتية “لقد تبين الناس، في التاريخ خطة وإيقاعًا منتظمًا ونمطًا مرسومًا، ولست أرى فيه إلا مفاجأة تتلوها مفاجأة، أو مجرد واقعة واحدة كبرى يستحيل علينا أن نصدر التعميمات بشأنها، لأنها واقعة فردة“.