في سُكون العقل: سِنكا عن رباطة الجأش، مصائد السُلطة و الأُبّهه، و كبح جماح الطموح
”أينما استطاعت الحياة أن تنمو، فعلت. ستنبثق باذِلةً أفضل مالديها“ هذا ما تقوله الشاعرة لأمريكية–الأفريقية (غواندولين بروكس) في أحدى القصائد التي تدور حول المثابرة والصمود. إلا أننا في المسعى الدائب لتحقيق أفضل ما لدينا، قد نُصبح عُرضة للإحباط إذا ما كنّا ندفع ضدّ تيار الحياة يحدونا الطموح الجامح. والشعور الداخلي المستمرّ الملّح لإنجازات أكبر، يقوّض طمأنينة النفس. وفي حين أن إزدهار الإنسان– لا مجرد صموده– هو غاية الحياة الأسمى، فإن ذلك قد لا يكون بالجري المحموم وراء أهداف لاتنضب تُشعرنا بالسخط ونحن دائمي التطلّع إلى مابعدها، بقدر مايكون في التسليم الحصيف؛ أن نبذل مابوسعنا مع أوراق اللعب التي قسّمت لنا.
هذا مايختبَره الفيلسوف الرواقي الروماني (سِنكا) في محاوره بعنوان: ”في سُكون العقل“. والرواقية فلسفة عملية نشأت بعد (أرسطو) تعلمنا كيف نتحلى بالثبات ونتحمل المحن ونخرج من رماد الفشل.
نحن جميعا موثّقون بالسلاسل إلى القدر؛ أحدنا وثاقه واسع مصنوع من الذهب، في حين أن وثاق الآخر قصيرٌ وصديء. ما الفرق و السجن نفسه يحيط بنا جميعا. بل وحتى أولئك الذين قيّدو غيرهم هم أنفسهم مقيّدون؛ إلا إذا ما كنت اعتباطاً تظن أن الأغلال على الجانب الآخر أخفّ وزنا. يكبّل الشرف أحد الرجال، وتكبّل الثروة آخر. تُرهق عراقة الأصل البعض، ويُرهق تواضعه آخرين. تعتقل البعض قوة خارجية، في حين يَقبعُ غيرهم تحت حُكم الطُغاة في دواخلهم. يجمع المنفى أحدى الفئات، ويجمع الكهنوت أخرى. الحياة كلّها إستعباد. ولذلك حقيقٌ على كلّ منّا أن يألف ظروفه، ويتذمر منها بأقل قدر ممكن، و يستمسك بكل ماهو خيّر في متناوله.
قبل ألفي عام من توصّل الطبيب النفسي الإنساني (فيكتور فرانكل) –أحد الناجين من المحرقة– إلى إعتقاده المُكتسب بشقّ الأنفس في أن: ”كل مايمتلكه المرء قد يُسلب منه عدا أمر واحد؛ قدرته على إختيار مَسلَكه تحت أي ظرف. وتلك هي حريته الأخيرة“. يكتُب (سِنكا):
ليس هناك شيء بائس إلى الحدّ الذي لا يستطيع معه العقل الساكن أن يجد راحة ما كامنة. فالكاتب إذا ماكان فطناً، جعل وريقات معدودة تخدم أغراضا جمّة. والتنظيم الحاذق يجعل قطعة أرض ضيقة صالحة للسُكنى. أعمِل حنكة العقل في الصعوبات وحينها تلين الظروف القاسية، وتتسع الحدود الضيقة. فوزر الأحمال الثقيلة لايَنُوء بمن يحملها بفطنة.
أيضا، يُسلّط (سِنكا) الضوء على الجانب الآخر من مقولته في أنه يجدر بالمرء أن لا يمكّن نوائب الدهر من أن توهن إتقاد الروح، و هو أن لا يجري خلف الطموح الجامح في حلقة مفرغة من السعي الذي لا يروم:
دعونا نُسقط الأمور المتعسّرة التي لا تكتمل، ونتعقبّ تلك القريبة المنال والتي تحضّ تطلّعاتنا. و دعونا أيضا نتذكر إبان ذلك أن كل الأشياء متساوية في اللاأهمية؛ تقدّم مظاهر مختلفة خارجيا، بيد أنها خاوية داخليا على حد سواء. (يطلق الرواقيون على الأشياء الخارجية التي يعتبرها عامة الناس خيرات وشرور ”الأشياء السواء أو اللافارقة indifferent“. ويعنون بذلك أنها لا تؤثر بذاتها في الحالة الداخلية للمرء، ومن ثم فإنها ليست خيرا ولا شرا.)
وهو يحذّر من حسد متبوئي مناصب السلطة، إذ أن النفوذ سلاح ذو حدّين؛ طموح و مصيدة في آن واحد:
كل منصب عال محفوفٌ بالمخاطر.. أولئك الذين ألقاهم القدر العاثر في مناصب حسّاسة سيكونون أكثر أمانا إذا ما اجتثّو الزهو الصادر عن أحوالهم الباعثة على التباهي، وتواضعوا –بقدر الإمكان– إلى حال بسيطة.
إن الكثيرين يتشبّثون بمناصبهم الرفيعة بفعل الضرورة، ولا يستطيعون الترجّل عنها إلا سقوطاً. وهم يقرّون بأنهم لم يرتقوا إلى تلك المناصب العالية، بل أوثقو إليها. دعهم إذا، بدافع الفضل الإنساني، يعدّوا من الوسائل مايعينهم على هبوط آمن، كَيما يطمئنوا على مستقبلهم. ومع ذلك، لن يحرّرنا من اضطرابات العقل تلك أمر مثل كبح التقدّم دون هواده.
يقف الطموح الجامح، كما يرى (سِنكا)، عقبة أمام تلبية الحياة على شروطها بتسليم هاديء. تسليم هو مطلب أساسي للوصول إلى سكون العقل وراحة البال. فأقصى مانستطيعه هو تقبّل أن كل ورقة لعب تقسمها لنا الحياة، سواء كانت رابحة أم خاسرة، هي عاريّة مؤقته من رزمة أوراق اللعب ستُعاد في نهاية المطاف. فآية الحكمة هي عدم المقاومة و ردّ الأمانة عن طيب خاطر إذ ما حان أجلها:
خليقٌ بالرجل الحكيم أن لا يخطو بحذر أو وجل. فهو يمتلك ثقة بالنفس تجعله لا يتردد في مقابلة مايقسمة القدر دون أن يتنازل أبدا عن موقفه. ولأنه لا يمتلك أي سبب للخوف، فهو لا يعدّ العبيد والممتلكات ومناصب الشرف فحسب، وإنما أيضا جسده وعينيه ويديه– وكل مايجعل الحياة عزيزة، حتى ذاته، من الأمور المضمونه. ويعيش كما لو أنه اقترضهم لإستعماله الشخصي وهو مستعد لردّهم–دون حزن– متى طلبوا.
وهو لا يرى نفسه عديم القيمة، لأنه يعلم أنه حتى هذه النفس ليست ملكا له. إلا أنه سيفعل كل مايفعل بإتقان مثلما يحرص الرجل التقي على أمانة استودعت عنده.
و متى استُردت الأمانه، فلن يشكو الدهر وإنما يقول لسان حاله :“أشكركم على ماكان في حوزتي. لقد اعتنيت حقا بمااستودعتموني– وإن سبب ذلك لي الأذى. وبما أنكم تستردونه الآن، فهاأنا أرده عن طيب خاطر…“. إذا كانت الطبيعة الكونية تطالبنا بما سبق أن أوكلته لنا، فسنقول لها: ”استردي عقلا أفضل مما مَنحتِ. أنا لا أسعى إلى الفرار، لقد تعهّدت طوعا بصقل ما أعطيتني دون علمي، فهاك إسترجعيه.
أين العَنَت في أن يعود المرء من حيث جاء؟ ذاك الرجل الذي لا يعرف كيف يموت جيدا، لا يجيد العيش.
[المصدر]