عن د. علي الطنطاوي، وأسلوبه في تربية النشء
علي الطنطاوي (1909-1999)، فقیه وأدیب وقاض سوري ویعتبر من كبار أعلام الدعوة الإسلامیة والأدب العربي في القرن العشرین. ترك (علي الطنطاوي) عددًا كبیرًا من الكتب، وكتب في كثير من الصحف العربية لسنوات طويلة أهمها ما كان يكتبه في مجلة الرسالة المصرية. وقد نشرت حفیدته (عابدة المؤید العظم) كتابین عنه، من بینها كتاب (هكذا ربانا جدي علي الطنطاوي) والذي یضم عدة مقالات تسرد فیه حفیدته بعض من الوقائع والحوادث والأسالیب التربویة المتفردة في حیاته، فتقول في مقدمته:
أما أنا فعرفته من أكثر من ثلاثين سنة لمّا وعيت وأدركت، فكان لي الجد العطوف والمربّي العاقل والموجّه المبدع. ورأيت كيف كان يتعامل مع بناته الكبار ومعنا -نحن أحفاده وحفيداته- الصغار، فوجدته متميزاً في توجيهه متفرّداً في أسلوب تربيته، ووجدت من الأثر الطيب لهذا التوجيه والنتائج العظيمة لهذه التربية ما زادني قناعة ويقيناً بأن هذه التجربة حَرِيّة أن لا تبقى حبيسة معرفة بعض الناس بل أن تُنشَر فيطلع عليها سائر الناس؛ فتكون لهم عوناً في تنشئة أبنائهم وتلاميذهم، ويستفيدون منها منهجاً صالحاً في التربية هم أكثر ما يكونون له حاجة، ويدعون لجدي بالمثوبة والأجر في الآخرة، وهو أحوج ما يكون إلى هذا الدعاء.
وفي مقالة (تنمیة المهارات) تتطرق حفیدته (عابدة العظم) عن اهتمام جدها بالمهارات وتشجيع المواهب وعن كیفیة استغلال هذه المواهب في كل مناسبة وكل فرصة، بالإضافة إلى العمل على تطویرها، فتقول:
كان جدي كثيراً ما يستغلّ جلساتنا العائلية العادية فيحوّ لها إلى جلسات علمية هادفة، وكان يستشهد فيها أحياناً بالأشعار ليخدم معنى أو يرسخ حكمة، فيلقي علينا من ذاكرته بيتاً أو بيتين من الشعر. وكان الغالب أن ينصرف بعد ذلك إلى موضوع آخر أو ينسجم في قصة أخرى فننسى ذلك البيت من الشعر أو تلك الأبيات، لكنه، وفي بعض الأحيان، كان يلتفت فجأة نحو واحد من أحفاده فيطلب منه أن يلقي البيت مرة أخرى ليختبر مقدار انتباهنا لما يقوله، وسرعة حفظنا لما نسمعه.
وأذكر أننا فكرنا مرة بكتابة الشعر (وكان شيئاً مضحكاً، فقد كنا في المرحلة الابتدائية لا نعرف شيئاً عن علم العروض، ولا نفقه شيئاً في الأوزان الشعرية)، فكتبنا بعض “الأبيات” في وصف الطبيعة وجمال الحديقة (بلا وزن ولا قافية!)، ثم عرضناها على جدي بكل فخر! والعجيب أنه لم يسخر منا بل شجعنا وخاطبنا على قدر عقولنا، ومنحنا جزءاً من وقته الثمين شرح لنا فيه بطريقة لطيفة أن الشعر يقوم على الوزن والقافية، وأعطانا فكرة مبسطة جداً عن علم العروض.
كما تتطرق في مقالتها إلى حرص جدها واهتمامه بالأدب والقراءة والكتابة وعلم التجوید، فتقول:
وعندما لاحظ لدى أحد أحفاده نبوغًا مبكرًا ومیلًا أدبیًا وأسلوبًا راقیًا، أرشده إلى الكتب القیمة المفیدة وشجعه على الكتابة والتألیف، وصار یصحح له كل ما یكتبه ویرشده إلى الطریقة السلیمة في الكتابة.
وعندما لمس مني اهتمامًا بالتجوید صار ینادیني -من حین لآخر- إلى غرفته فأقرأ ویصحح لي، مما شجع بعض الأحفاد على الانضمام إلینا، عندها لاحظ جدي أن بعضنا لایستطیع إعطاء المدود حقها بسبب انقطاع سریع في النفس، فصار یدربنا على الاحتفاظ الطویل بالنفس، وصار یجري في ذلك مسابقات فیضبط ساعته، ثم یُحصي لكل واحد منا مقدار الثواني التي استطاع فیها ذلك، ویشجع الحفید الذي تحسن أداؤه عن الیوم السابق، ویقارن بین الأحفاد لیحثنا على التحسن.
وتختتم الحفيدة حدیثها عن جدها على الطنطاوي واهتمامه بتنمیة المهارات قائلة:
كان دأب جدي أن ینمي كل مهارة وأن یتلمس -بقدرته الفذة على الاستشعار- مواطن الإبداع الكامن لدى كل منا لصقله وتطویره. (ومن ذا من الناس يخلو من أي قدر من الإبداع؟) وكان يشجع أي عمل إيجابي -مهما كان بسيطاً – فيحاور صاحبه موضحاً له قيمة عمله، وحاثاً إياه على تقديم الأفضل دائماً، ويشجعه على الاستمرار
فيه مغدقاً عليه كل الثناء والتقدير.