فقه الحياة

في مديح الإخفاق بقلم كوستيكا براداتان

the-seventh-seal-chess-game

كوستيكا براداتان بروفيسور مساعد في كلية الشرف في تكساس ، يُدِّرسُ الأديان والدراسات المقارنة ومحرر في لوس أنجلس تايمس قسم مراجعة الكتب ، ومؤلف لكتاب “الموت للأفكار: حياة الفلاسفة الخطيرة” ، يحدُّثنا في هذه المقالة -من ترجمتي- والمعنونة ب “في مديح الإخفاق” عن ثلاثة أسباب تجعل من الإخفاق الموجود في طبيعتنا مهماً.

ولكن قبل أن يبدأ بسرد الأسباب، يستفتح براداتان مقالته بالحديث عما يجعل هذا الموضوع مهماً، أو لم على الفلسفة أن تهتم بالإخفاق حيث يقول

لو كان هناك وقتٌ للتفكير بجدية عن الإخفاق ، فهو الآن .

إننا في عصرٍ محكوم بالنمو المتسارع . نحن نشهد التطورات في العلوم ، الفنون ، التكنولوجيا ، الطب و تقريباً كلُّ أشكال الإنجازات البشرية في مستوى لم يشاهد من قبل . نعلم أكثر عن عمل الدماغ ومسافات المجرات أكثر مما يمكن أن يتصور أسلافنا . تصميم الإنسان الخارق ـ الأصح ، الأذكى ، الأقوى ، الأكثر وسامةً ، الأطول بقاءً – يبدو أننا نعمل عليه . حتى الخلود يبدو الآن ممكناً بالمخرجات المحتملة من الهندسة الأحيائية.

الوعد باستمرار النمو والتطور الإنساني فاتنٌ بالتأكيد و لكنَّ هناك خطراً أيضا، أن في ذاك الكمال المستقبلي ، سيكون الإخفاق بائداً .

لمَ علينا أن نقلق ؟ وبشكلٍ أدق، لمَ على الفسلفة أن تهتم بالإخفاق؟

أليس لديها ما هو أهم ؟ والجواب لهذا بسيط : فالفلسفة في أفضل وضعها تبحث عن الإخفاقات، لأنها تعرفها بشكل حميمي . فتاريخ الفلسفة الغربية على الأقل لم يكن إلا سلسلةً طويلةً من الإخفاقات، إنْ كانت منتجةً فاتنة بالطبع. و أي فيلسوف مختص عملياً يثبت نفسه بدراسة “الإخفاقات “ ، “ الأخطاء “ ، “ المغالطات “ أو “ السذاجات” من الفلاسفة الأخرين . فقط ليكون في المقابل غير متجاهلٍ من الآخرين كفاشلٍ آخر . كل جيل فلسفي يأخذها كمناوبة ليلاحظ الإخفاقات السابقة : وعليه ، بغض النظر عن ما تفعله ، الفلسفة محكومٌ عليها بالإخفاق . لكن من إخفاقٍ إلى إخفاقٍ ، ازدهرت عبر العصور . كما عمانوئيل ليفينس يضعها في الذاكرة ( في مقابلة مع ريتشارك كيرني ) “ ما يميِّز الفلسفة هو الإخفاق “ فهو يبدو غذائها ، و يبقيها على قيد الحياة . كما كانت ، نجاحات الفلسفة ، كانت إلى الآن تخفقها .

ومن هنا يبدأ براداتان بسرد الثلاثة أسباب التي التي تجعل من الإخفاق والفشل عنصراً مهماً لنا.

الإخفاق مهم لعدد من الأسباب أريد أن أناقش ثلاثة منها

الإخفاق يدعنا نرى الوجود في وضعه المجرد :

فأينما يظهر، الإخفاق يشرح كيف يقترب وجودنا إلى نقيضه. خارج غريزة البقاء ، أو الماورائيات المحضة ، نميل لرؤية العالم كمادة ، معتمدة ، بل مكان غير قابل للهدم . و نجد صعوبة حادة في تقبل وجود هذا العالم بدوننا . “ إنه من المستحيل كلياً لموجود عاقل أن يتعقل نفسه غير موجودة ، في السياق المعقول والحياة “ كما لاحظ غوثي . نخدع أنفسنا وننسى كيف أننا قريبون من العدم دائماً . لك أن تقول أن إخفاق مكينة طائرة تستطيع أكثر من اللازم أن تضع نهايةً لكل شيء ، حتى سقوط حجر أو خلل فرامل سيارة يقوم بالمهمة . وبما أنه ليس دائماً ينسب للقدر ، فالإخفاق يحمل معه درجةً مؤكدةً من تهديد الوجود .

الإخفاق هو ظهورٌ فجائيٌ من اللاشيء (العدم) خلال الوجود. ولتجريب الإخفاق هو أن تبدأ بالنظر إلى الشقوق في نسيج الوجود وهذه اللحظة بالتحديد – ربما استوعبت – عندما الإخفاق يتحول إلى مبارِكٍ لذاك التماهي. لأن هذا الكمون يثبِّت التهديد اللازم لجعلنا متنبهين لما فوق الإعتيادي فينا كموجودين . فالمعجزة أننا وجدنا دفعةً واحدةً عندما لم يكن هناك سببٌ يوجب ذلك و معرفة هذا تعطينا شيئاً من الكرامة. في هذا الدورة ، يملك الإخفاق أيضاً الدور العلاجي المميز و كثيرٌ منا ( كالأكثر نباهةً أو متنوِّراً استثنائياً ) يعاني بإزمان من تسويةٍ فقيرةٍ في الوجود . نحن جبرياً ، نحد ذاوتنا بأهمية أكثر مما نحن عليه ونتصرف كأن العالم كان من أجلنا . وفي أسوء لحظاتنا نضع أنفسنا كالأطفال في المركز من كلِّ شيء ونستثني بقية الكون ليكون تحت خدمتنا . نفترس بقية المخلوقات ، بنهمٍ نعرِّي الكوكب من الحياة ونملؤه بالقذارة . الإخفاق يمكن أن يكون دواءً ضد هذا الغرور و الغطرسة ، مما يأتي بالوضاعة عادةً .

قابليتنا للإخفاق أمرٌ جوهريٌ في تكويننا :

نحن نحتاج للحفظ ، للرعاية ، حتى نحافظ على إمكاناتنا . نحن نظل على سبيل الحسم جوهرياً غير كاملين ، غير مكتملين و مخلوقات خطاءة. بمعنى آخر ، هناك فجوة دائماً موجودة بين (ما نحن) و (ما نستطيع أن نكون). أياً كانت إنجازات الإنسان في التاريخ فقد كانت مضبوطةً بسبب هذا المساحة الفارغة . هي في هذا الفاصل ، بين الناس ، الأفراد سواءً والمجتمعات قادرةٌ على إنجاز أي شيء . لا يعني هذا أننا انتقلنا إلى شيء أفضل ، سنظل في هذا الضعف ، أشياء تخطئ. لكن في هذا المشهد يكون نقصنا غير مطاق لأنه بعض الأحيان يصيبنا بالعار أثناء فعل الخير. و من السخرية أن جهادنا مع مشاعرنا الخاصة قد يأتي بأفضل ما لدينا .

الفجوة بين “ ما نحن “ وما “ نستطيع أن نكون “ أيضا هي المساحة بين ما تتخيله المثالية . أدبيات المثالية ، في أفضل أحوالها ، توثق بالتفاصيل كفاحنا مع ما هو شخصي وماهو إخفاق اجتماعي . و في حين عادةً بُنيَت ( المثاليات ) عن عوالم كاملة وفائضة ، المثاليات ردات فعلٍ على النواقص و الصدوع في الوجود . إنها التعبير الأفضل لما نحتاجه بشدة . كتاب توماس مور لم يكن عن جزيرةٍ خياليةٍ ( مبتكر اليوتوبيا ) ولكن كان عن إنجلترا في زمانه . المثاليات تبدو محتفيةً بالكمال الإنساني ولكن في المقابل ، قبولَها المذهل للإخفاق و عدم الكمال والحيرة .

و الآن بشكل محسوم نظل نحلم ونجري مع المثاليات ولو لم توجد لبعض الحالمين لعشنا في عالم أكثر قبحاً اليوم. ولكن فوق ذلك كله ، بدون الأحلام والمثاليات سنجف كأنواع حية. افترض في يومٍ ما أن العلم استطاع حل جميل معضلاتنا . سنصير بتمام الصحة ، نعيش مطلقاً وأدمغتنا – مع الشكر لبعض المساعدات – ستعمل مثل الكمبيوتر . في ذلك اليوم يمكن أن نكون شيئاً مثيراً جداً ، لكنني لست متأكداً إذا ما كنا سنملك ما نعيش لأجله . سنكون مكتملين افتراضياً لكننا ميتين فعلياً.

وفي نهاية المطاف، قابليتنا للإخفاق هي التي تجعل منا مَن نحن. فأدمغتنا في جوهرها مخلوقات مخفقة موجودة في عمق أي طموح . إنَّ الخشية من الإخفاق والتعلم وكيفية تجنبه في المستقبل كلها أجزاء من عملية التشكيل والقدر الإنساني للقرار . ولهذا ذكرت فيما سبق ، أن قابليتنا للإخفاق يجب أن تحفظ. ولا يهمنا قول محترفي التفاؤل ، فهكذا شيء يستحق الإحتفاظ كقطعة فنية مميزة ، كذكرى أو كأي إنجاز آخر . لأن القابلية للإخفاق – بشكلٍ ما- مهمة أكثر من أي إنجازات فردية بشرية . لأنها تجعل هذه الإنجازات ممكنة التحقق .

نحن مصمَّمونَ لنخفق :

لا يهم كم هي حياتنا تحولت لناجحة ، و كم صارت ذكية ، ولا كدحنا و كدُّنا .. فذات النهاية تنتظرنا كلنا “ الإخفاق”. إنه في مكوَّنِنَا الأحيائي ( البيولوجي ). فالتهديد الوجودي من الإخفاق يلازمنا طوال الوقت ، لكن من أجل أن ننجو في الحكم النسبي للقناعة ، أغلبنا تظاهر أنه لا يرى الإخفاق . تظاهرنا، على أنه لم يوقفنا عن المسير قدما لقدرنا : أسرع ، ” أسرع بنسبة عكسية لربع المسافة من الموت “ كما شرح العملية شخصية إيفان في رواية تلستوي ، إلا أن شخصية تلستوي لا تساعدنا كثيراً هنا ، فالسؤال الجوهري عن كيفية الوصول إلى الإخفاق الأكبر ، كيف نواجهه ونعانقه ونملكه – أمرٌ أخفق فيه إيفان في فعله .

الموديل الأفضل يمكن أن يكون إنغمار بيرغميان (Ingmar Bergman’s) وشخصيته أنتونيوس بلوك ، من فلم “ الختم السابع ” (The seventh seal) . يعود الفارس من كروسادس وينغمر في أزمة إيمان ، بلوك تواجَهَ مع الإخفاق الكبير على هيئة رجل . لم يتردد في الدخول في الموت مباشرةً . لم يهرب ، لم يسأل الرحمة ، فقط تحداه في لعبة شطرنج . لا حاجة للقول أنه لم يستطع النجاح في هكذا لعبة – فلا أحد يستطيع – لكن النصر ليس المسألة . أنت تلعب ضد الإخفاق الأكبر النهائي لا لينتصر ، لكن لتتتعلم كيف تخفق .

بيرجمان الفيلسوف يعلمنا درساً عظيماً هنا . كلنا في النهاية سنخفق . لكن هذا ليس الأمر الأهم . ما يهمنا هو كيف سنخفق وماذا سنكسب من العملية . خلال هذا الوقت الوجيز من اللعبة مع الموت ، أنتونيوس بلوك لابد أنه خبرَ ما لم يخبره طوال حياته . بدون تلك اللعبة كان سيعيش للاشيء . في النهاية بالطبع خسر ، لكن أنجز شيئاً نادراً  هو لم يحول الإخفاق إلى فن فحسب.. بل أداره ليجعل منه فناً في الإخفاق وجزءً حميمياً من فنِّ الحياة.!

للاستزادة:

المقال بنسخته الأصلية في جريدة النيويورك تايمز.

رابط فلم “الختم السابع”

زر الذهاب إلى الأعلى