الفرق الدقيق بين الثقافة والحضارة كما يراه بيغوفتش
علي عزت بيغوفتش فيلسوف ومفكر ألف العديد من الكتب ذات الأثر على جيل كبير من المفكرين المعاصرين أبرزهم عبد الوهاب المسيري. لعل أهم كتب بيغوفتش التي سيخلدها له التاريخ هو كتاب (الإسلام بين الشرق والغرب). يدافع بيغوفتش في هذا الكتاب ليس عن الإسلام فحسب بل عن فكرة الإنسانية مقابل المضامين المادية والاستهلاكية التي تسعى الحضارة الغربية لفرضها. سبق أن تحدث في تدوينة سابقة عن الفرق بين الروح والنفس. وهذه المرة سيتحدث عن الفرق أيضا، ولكن بين الثقافة والحضارة حيث يتصور أغلب الناس أنهما مصطلحين مترادفين، بينما لدى بيغوفتش وجهة نظر أخرى تماماً..
هناك خلط غريب بين فكرة الثقافة وفكرة الحضارة. الثقافة تبدأ “بالتمهيد السماوي” بما اشتمل عليه من دين وفن وأخلاق وفلسفة، وستظل الثفاقة تُعنى بعلاقة الإنسان بتلك السماء التي هبط منها، فكل شيء في إطار الثقافة إما تأكيد أو رفض أو شك أو تأمل في ذكريات ذلك الأصل السماوي للإنسان. تتميز الثقافة بهذا اللغز، وتستمر هكذا خلال الزمن في نضال مستمر لحل هذا اللغز.
أما الحضارة، فهي استمرار للحياة الحيوانية ذات البعد الواحد، التبادل المادي بين الإنسان والطبيعة. هذا الجانب من الحياة يختلف عن الحيوان فقط في الدرجة والمستوى والتنظيم. هنا لا نرى إنساناً مرتبكاً في مشاكله الدينية، أو مشكلة “هاملت” أو مشكلة “الإخوة كرامازوف” إنما هو عضو المجتمع الغُفل، وظيفته أن يتعامل مع سلع الطبيعة ويغير العالم بعمله وِفقاً لاحتياجاته.
الثقافة هي تأثير الدين على الإنسان أو تأثير الإنسان على نفسه، بينما الحضارة هي تأثير الذكاء على الطبيعة أو العالم الخارجي. الثقافة معناها “الفن الذي يكون به الإنسان إنساناً”، أما الحضارة فتعني “فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء صناعةً دقيقة”، الثقافة هي “الخلق المستمر للذات”. أما الحضارة، فهي “التغيير المستمر للعالم”. وهذا هو تضاد: الإنسان والشيء، الإنسانية والشيئية.
الدين والعقائد والدراما والشعر والألعاب والفنون الشعبية والقصص الشعبية والأساطير والأخلاق والجمال، وعناصر الحياة الأساسية والقانونية التي تؤكد على قيم الشخصية والحرية والتسامح، والفلسفة والمسرح والمعارض والمتاحف والمكتبات – يمثل هذا كله الخط المتصل للثقافة الإنسانية، الذي بدأ مشهده الأول في السماء بين الله والإنسان. إنه “صعود الجبل المقدس، الذي تظل قمته بعيدة المنال، سيراً في الظلام بواسطة شمعة مضيئة يحملها الإنسان”.
حامل الثقافة هو الإنسان، وحامل الحضارة هو المجتمع، ومعنى الثقافة القوة الذاتية التي تُكتسب بالتنشئة، أما الحضارة فهي قوة على الطبيعة عن طريق العلم. فالعلم والتكنولوجيا والمدن والدول كلها تنتمي إلى الحضارة. وسائل الحضارة هي الفكر واللغة والكتابة. وكل من الثقافة والحضارة ينتمي أحدهما للآخر كما ينتمي عالم السماء إلى هذا العالم الدنيوي، أحدهما “دراما” والآخر “طوبيا”.
الحضارة هي استمرار للتقدم التقني لا الروحي، والتطور “الدارويني” استمرارٌ للتقدم البيولوجي لا للتقدم الإنساني. تمثل الحضارة تطور القوى الكامنة التي وُجدت في آبائنا الأوائل الذي كانوا أقل درجة في مراحل التطور. إنها استمرار للعناصر الآلية- أي العناصر غير الواعية التي لا معنى لها في وجودنا. ولذا، فإن الحضارة ليست في ذاتها خيراً ولا شرّاً. وعلى الإنسان أن يبني الحضارة تماماً كما أن عليه أن يتنفس ويأكل. إنها تعبير عن الضرورة وعن النقص في حريتنا. أما الثقافة، فعلى العكس من ذلك: هي الشعور الأبدي بالاختيار والتعبير عن حرية الإنسان.
الحضارة تُعلِّم أما الثقافة فتُنوّر، تحتاج الأولى إلى تعلُّم، أما الثانية فتحتاج إلى تأمُّل.