فرانسيس بيكون ومقالته حول الأوهام
فرانسيس بيكون (1561 – 1626) فيلسوف ورجل دولة وكاتب إنجليزي شهير، معروف بقيادته للثورة العلمية عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على الملاحظة والتجريب. من الرواد الذين انتبهوا إلى غياب جدوى المنطق الأرسطي الذي يعتمد على القياس. في كتاب (تاريخ الفلسفة الحديثة) للفيلسوف الأمريكي (ويلم كلي رايت)، قام الأخير بتلخيص أفكار (بيكون) حول الأوهام، يقول بداية وعن الفلسفة التجريبية:
لقد اعتقد (بيكون) – بوصفه فيلسوفًا تجريبيًا – أن المعرفة البشرية تبدأ بالتجربة الحسية، ويمكن أن تتسع عن طريق ملاحظات وتجارب دقيقة. ومن هنا لابد أن تبدأ الاستدلالات ببطء وبعناية ؛ فلا ينبغي أن نقفز فجأة من وقائع قليلة إلى تعميم سريع. ولا ينبغي أن نترك شيئًا دون أن نضعه في الاعتبار.
يستكمل حديثه بعد ذلك قائلًا عن علاقة (بيكون) بالتراث الفلسفي:
لقد رأى (بيكون) أن الفلسفة لابد أن تُبنى على أسس صلبة، مثل الأسس التي يمكن للعلم الطبيعي وحده أن يقدمها، ورأى أن المنطق يحدد الطريق الذي يستطيع العلماء أن يصلوا بواسطته إلى اكتشافات، ويمدوا الفلسفة بمادة التأويل والتفسير.
ولما كان (بيكون) قد ظهر في في هذا العصر، فقد اهتم ببيان أخطاء الماضي، وأصرَّ على أنه يجب البدء من جديد بطريقة جديدة تمامًا. وكما سيحدث باستمرار في حالة الرجال الذين يفعلون ذلك، كان أحيانًا حادًا للغاية في الحكم على السابقين، أي في الحكم على الفلاسفة القدماء وفلاسفة العصور الوسطى. مع أنه في حالات أخرى أبقى بصورة لاشعورية على كثير جدًا من وجهات نظر مضت كان قد رفضها ونبذها.
وقد قام (بيكون) بتقسيم الأوهام التي تسيطر على عقول البشر، وتمنع تقدمهم إلى أربعة أنواع، قام (ويليم رايت) بتلخيصها كالتالي:
أول هذه الأوهام هي أوهام القبيلة، التي يشترك فيها الجنس البشري كله، وتلازم طبيعة البشر الخالصة. ومن هذه الأوهام الميل إلى افتراض وجود نظام واطراد في العالم أكثر مما هو موجود بالفعل، ولذلك اعتقد العلماء أن الأجرام السماوية تتحرك في دوائر كاملة، وأن نسبة كثافة ما يسمى بالعناصر تساوي عشرة إلى واحد. ومن هذه الأوهام أيضًا إذا تبنينا رأيًا ما، فإننا قد لا ننتبه إلا إلى الدليل المؤيد له، ونهمل الدليل المناقض له. وذلك يفسر اعتقاد الإنسان في الطالع، والأحلام، والتنجيم، وخرافات أخرى. […] إن “الذهن البشري ليس موضوعيًا غير متحيز” بل “تخيم عليه” سحب الانفعالات والرغبات، حتى إن الناس لديهم استعداد لأن يعتقدوا فيما يرغبونه، ولذلك يستعجلون ولا يتأنون في البحث، ويندمون بالتالي على وقائع حقيقية توجد وراء آمالهم، ويأسفون عندما يناقض نور التجربة كبرياءهم وغرورهم. ويعوق الذهن البشري، علاوة على ذلك “بلادة الحواس، وعجزها، وخداعها“، حتى أن ما يمكن رؤيته مباشرة يفوق المبادئ غير المرئية التي تستنبط من استدلال قائم على التجارب.
أما عن النوع الثاني من الأوهام، فيقول:
وثاني هذه الأوهام، أوهام الكهف، وهي خاصة بكل إنسان فرد. وهي لأن كلًا منا يعيش في كهف صغير، أو يعيش في مغارته الخاصة، وله طريقته الخاصة في التفكير، ترجع إلى الوراثة، والتربية، والعادات، والظروف. ولذلك يغالي بعض الناس عادة في التشابهات بين الأشياء، بينما يغالي بعضهم في الاختلافات بينها، ويحب بعضهم القديم بإفراط ويحترمون السابقين، في حين أن بعضهم أسرى لما هو جديد من كل نوع.
ويستكمل حديثه حول النوع الثالث من الأوهام:
وثالث هذه الأوهام، وهي أكثر الأوهام إثارة للمشكلات، وهي أوهام السوق، حيث يتقابل الناس معًا، ويتفاهمون عن طريق اللغة. ولأن الكلمات يكون أصلها في عقل الإنسان العادي، فكثير ما لا تكون مناسبة لبحث علمي دقيق، فتكون النتيجة أن الناس يتجادلون حول كلمات يعجزون عن تعريفها بطريقة مناسبة. فبعض الكلمات الموروثة من آراء غامضة من الماضي، ويمكن تجنبها عن طريق رفض النظريات التي أدت إليها، مثل الحظ، والمحرك الأول، وعنصر النار.
أما النوع الأخير من الأوهام، فيقول عنه:
وآخر هذه الأوهام، أوهام المسرح، تلك “التي تتسرب إلى عقول الناس من معتقدات الفلسفات المختلفة، ومن قوانينها البرهان الخاطئ أيضًا“. فجميع المذاهب التي وصلت إلى عصر (بيكون) لم تكن في رأيه سوى “مسرح كبير جدًا يمثل عوالم من خلق (أناس) على غرار نموذج غير واقعي وخيالي“. وتحت هذا النوع من الأوهام يدين (أرسطو)، من حيث أنه ممثل للفلاسفة العقليين؛ لأنه حاول أن يضع العالم في مقولات من اختراعه الخاص دون أن يرجع أولًا إلى الطبيعة ويلاحظ الوقائع الفعلية، بل حدد من البداية بنتائجه، ثم عاد بعد ذلك إلى التجارب ليؤكد ما قرر مسبقًا. وهناك ما هو أشد سوءًا فيما يقول (بيكون) وهو أنه حتى الفلاسفة التجريبيين السابقين عليه كان ينقصهم منهجه، إذ كانوا يقومون بعملية التعميم من تجارب ضئيلة جدًا، تاركين خيالهم يجمح.
يقول (ويليم كيلي رايت) معقبًا على هذا التقسيم للأوهام:
وعندما نراجع الأنماط الأربعة من الأوهام عند (بيكون)، ندرك أنه بيّن بحق مصادر أربعة مختلفة للخطأ لابد من تجنبها في تفكيرنا. مع ذلك نجزع في البداية عندما نفكر في أن تلك الأوهام هي أيضًا المصادر الرئيسية لمعرفتنا. فنحن لا نستطيع أن نلاحظ إلا عندما نستخدم المصادر الذهنية المشتركة للبشرية، أو باستفادتنا من أي مواهب استثنائية قد نكون محظوظين بدرجة كافية بامتلاكها كأفراد. إننا لا نستطيع أن نستدل، إلا في المجالات المجردة الخالصة للرياضيات والمنطق الرمزي، بدون استعمال الكلمات، وإذا أراد الفيلسوف أن يفهمه الناس، يجب عليه استخدام الكلمات في صورتها الشائعة، ولا يخترع رطانة أعجمية خاصة به. ولا يستطيع إنسان حديث أن يرفض تمامًا كل ما أنجزته الفلسفة في الماضي وأن يحاول أن يبدأ بداية جديدة تمامًا، كما فعل (طاليس) في العصور القديمة في الفلسفة الطبيعية، وكما فعل (سقراط) في الفلسفة الاجتماعية. إننا مضطرون إلى أن نلفت النظر إلى المصادر الأربعة كلها – التي عندما يُساء استخدامها – تسبب الأوهام.