الأخلاق والسياسة عند توماس هوبز
توماس هوبز (1588 – 1679) هو عالم رياضيات وفيلسوف إنجليزي. يعد (هوبز) أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر بإنجلترا وأكثرهم شهرة خصوصا في المجال القانوني، حيث كان بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة والأخلاق والتاريخ، فقيها قانونيا ساهم بشكل كبير في بلورة كثير من الأطروحات التي تميز بها هذا القرن على المستوى السياسي والحقوقي. كما عرف بمساهمته في التأسيس لكثير من المفاهيم التي لعبت دورًا كبيرًا ليس فقط على مستوى النظرية السياسية، بل كذلك على مستوى الفعل والتطبيق في كثير من البلدان وعلى رأسها مفهوم العقد الاجتماعي. في كتاب (تاريخ الفلسفة الحديثة) للفيلسوف الأمريكي (ويليم كيلي رايت)، حاول الأخير تلخيص وتبسيط أفكار (هوبز) حول السياسة وعلاقتها بالأخلاق. يقول في بداية حديثه:
يرى (هوبز) أن كل إنسان، في الحالة الطبيعية، تلك الحالة السابقة على تكوين الدولة السياسية، كان يبحث عن البقاء، وإشباع رغباته الخاصة بلذات أنانية، مثل المغنم والمجد. ولا وجود للأخلاق كما نعرفها. ولكل واحد الحق الكامل فيما يستطيع الحصول عليه والمحافظة عليه. لا وجود لشيء لشيء مثل القانون أو الظلم. والنتيجة الحتمية لذلك هي “حرب الكل ضد الكل” ؛ لأن الناس إما أن يكونوا في حالة حرب فعلية بصورة مستمرة، أو يكونوا في خوف دائم من أن يهاجم بعضهم بعضًا. لأن الحرب لا تكمن فقط في القتال، بل تكمن أيضًا في الخوف الدائم والاستعداد للصراع ؛ “وكما أن طبيعة الطقس الممطر العاصف لا تتمثل في وابل المطر ينزل مرة أو مرتين، بل في استمرار سوء الطقس لعدة أيام، فكذلك الأمر بالنسبة للحرب لا تتمثل في القتال الفعلي، بل في الميل للقتال في جميع الأوقات التي لا يكون العكس فيها مضمونًا“، ليس هناك معنى للأمان، وليس هناك حافز على الصناعة. الكل في خوف وفقر دائمين. ولابد أن تكون الحياة البشرية “منعزلة، فقيرة، بدائية، وحشية، وقصيرة الأمد“. أما ما إذا كان (هوبز) يعتقد أن تلك الحالة كانت موجودة بالفعل، وأنها حالة تاريخية، فذلك أمر مشكوك فيه، فهو يقول من المحتمل أنها لم تكن عامة أبدًا. ولكنه يعتقد بأنها حالة قريبة من حالة الطبيعة يمكن ملاحظتها بين الهمج، ولكنها متضمنة في سلوك الإنسان المتمدين.
وجود مثل هذه الحالة من الصراع الدائم، أمرٌ مرهق في النهاية، يقول:
إن الناس يرغبون بصورة طبيعية في السلام والأمن، والهروب من البؤس والفزع من حالتهم الطبيعية. فدفعهم ذلك إلى تأسيس دولة تقوم على رضى متبادل، يوافق فيها كل فرد على طاعة أوامر صاحب السيادة، الذي يكون رجلًا واحدًا وخلفاؤه (النظام الملكي)، أو مجموعة من الناس (الارستقراطية أو الديموقراطية، وفقًا لحجم المجموعة). وكان صاحب السيادة في إنجلترا شخصًا واحدًا. وسلطة صاحب السيادة مطلقة، وهو لا يمكن أن يرتكب خطأ يمكن أن يخضع بسببه للمساءلة من الناحية القانونية ؛ فهو ليس مسؤولًا إلا أمام الله وضميره. ويتعهد الآخرون بطاعته، وهو لم يتعهد لهم بشيء. بل له سلطة سن القوانين، وتعيين القضاة، وإعلان الحرب والسلم، وتوقيع العقوبات، وتحديد دين الدولة. وجميع رعاياه تطيعه، وإلا كان هناك صراع، وحرب، وعودة إلى بؤس الحالة الطبيعية. ولما كانت الدولة قد تكونت بوصفها مصلحة أنانية فردية، فإن “خضوع الرعايا لصاحب السيادة يجب أن يفهم على أنه يدوم ما دام يملك من القوة المستمرة ما يمكنه من حمايتهم وليس أطول من ذلك“، فإذا فقد قوته وهزمه صاحب سيادة آخر، وخضع له، فإن خضوع رعاياه يتحول إلى المنتصر.
بذلك يمكن تلخيص الركيزة الأساسية للسياسة عند (هوبز)، بأنها:
تقوم على مذهبي الأنانية واللذة تمامًا. فالناس يسلكون ويجب أن يسلكوا وفقًا لمصالحهم الخاصة فحسب.
ثم يكمل بعد ذلك، فيُعرّف القوانين الطبيعية:
فالقانون الطبيعي هو فكرة أو قاعدة عامة، يكتشف الإنسان عن طريق عقله أن من مصلحته طاعتها، ومن ثم فهو مُلزم بأن يفعل ذلك (فالمصلحة والواجب الأخلاقي هما شيء واحد في هذا المذهب الطبيعي الأخلاقي).
يشرع بعد ذلك في تبسيط القوانين الطبيعية والأساسية، فيقول:
القانون الطبيعي والأساس الأول هو أن الناس ينبغي عليهم أن “يبحثوا عن السلام ويتبعوه“.
وينتج عن ذلك القانون الثاني وهو “ينبغي أن يكون لدى الإنسان الرغبة في السلام، عندما يكون لدى الآخرين نفس هذه الرغبة، وأن تكون لديه الرغبة في الدفاع عن نفسه عندما يجد أنه لابد أن يفعل ذلك، وأن يتنازل عن هذا الحق (الطبيعي) في ملكيته لجميع الأشياء، وأن يقنع بذلك القدر من الحرية إزاء الآخرين الذي يسمح به للآخرين إزاءه“.
أما القانون الثالث فيقول: “ينبغي أن يلتزم الناس بتنفيذ ما يبرمونه من عقود” التي بدونها تصبح العقود، بالطبع، عديمة الجدوى.
ثم يتبع ذلك عشر قوانين طبيعية أخرى، وهي:
1. الالتزام بالإرادة الخيرة.
2. التكيف المتبادل.
3. العفو عن التائب.
4. العقوبات لا تكون إلا من أجل إصلاح المعتدين أو ردع الآخرين، وليس من أجل الانتقام.
5. الامتناع عن ازدراء أو كراهية الآخرين.
6. الاعتراف بأن جميع الناس متساوون.
7. امتناع الإنسان عن الاحتفاظ بأي حقوق لنفسه دون غيره، أي أن ينبغي على المرء ألا يرضى لنفسه أن يحتفظ بأي حق لا يرضى أن يحتفظ به كل إنسان آخر لنفسه.
8. التوزيع العادل أو النسب الصحيحة للخيرات التي تكون ملكًا للجميع.
9. السلوك الآمن.
10. حل المنازعات عن طريق الجهة القضائية.
ختامًا، يقول (هوبز) عن هذه القوانين الطبيعية التي وضعها:
وقوانين الطبيعة تلك قوانين ثابتة وأبدية ؛ لأن الظلم، ونكران الجميل، والتكبر، والكبرياء، والبغي، والمحاباة، وغيرها، لا يمكن أن تكون على الإطلاق أمورًا مشروعة وقانونية. لأنه لا يمكن مطلقًا القول بأن الحرب يمكن أن تحافظ على الحياة، وأن السلام يدمرها.