أغوتا كريستوف في معنى الكتابة، أن تنقاد لشيء شبيه بالحلم.
أغوتا كريستوف (1935-2011)، كاتبة مسرحيّة وروائيّة ولدت في المجر وغادرت إلى سويسرا عام 1956 مع زوجها وابنتها هربًا من قمع النظام الشيوعي للثورة المجريّة وهجوم الاتحاد السوفييتي على بودابست،
بعد خمس سنوات من الوحدة والكآبة والعمل الشاق في مصنع للساعات بسويسرا، تركت عملها وانهمكت في تعلّم اللغة الفرنسية وإتقانها، وهي اللغة التي توّجت بها نتاجها الأدبيّ. حققت أغوتا نجاحًا باهرًا في الأدب ولها عدد من المسرحيّات والروايات التي لفتت النقّاد ونافست الأدباء بالحصول على جوائز متعدّدة.
يُذكر أن أولى رواياتها (الثلاثيّة)؛ (الدفتر الكبير) (البُرهان) (الكذبة الثالثة) حازت على الكثير من الجوائز وتُرجمت لأكثر من ثلاثين لغة عالميّة.
في كتابها (الأميّة) والذي يُعد سيرة ذاتية، والذي قام بترجمته الأستاذ (محمد آيت حنا)، تتحدث (أغوتا) عن الكتابة، وعن أسلوبها في ذلك. وفي حديث عن طفولتها تقول:
الرغبة في الكتابة لم تأتني إلا فيما بعد. عندما انقطع خيط الطفولة الفضي، عندما أتت الأيام السيئة، وأتت السنوات التي وصفتها قائلة: “لا أحبها“.
حين افترقت عن والديّ وأخويّ، والتحقت بمدرسة داخلية في مدينة لا أعرفها، وحيث لم يعد لي من وسيلة لتحمّل ألم الفراق سوى: الكتابة.
وتسردُ مطوّلًا عن الكتابة في أحد فصول سيرتها الذاتية، والذي أطلقت عليه اسم “كيف يصير المرء كاتبًا”. تقول ناصحة:
ينبغي في البداية أن تكتب، بالطبع. ثم ينبغي بعد ذلك الاستمرار في الكتابة. حتى حين لا يثير اهتمام أحد، حتى حين يتملكك الانطباع بأن كتاباتنا لن تثير قط اهتمام أحد، حتى حين تتراكم المسودّات في الدرج وننساها بينما نكتب أخرى.
وفي حديث عن ظروف ولادة كتابها (الدفتر الكبير)، والذي ترجمه للعربية الأستاذ (محمد آيت حنا) أيضًا:
بدأت كتابة نصوص قصيرة عن ذكريات طفولتي. كنت ما أزال بعيدة عن التفكير في أن تلك النصوص القصيرة ستصير كتابًا ذات يوم. ومع ذلك، لم تكد تمضي سنتان حتى صار على مكتبي دفتر كبير يحوي قصة منسجمة، ببداية ونهاية، كأنها رواية فعلية. كان ما يزال ينقص النص الطباعة، ثم التصحيح، فالطباعة مرة أخرى، محو كل ما يبدو زائدًا ولا حاجة له، ثم التصحيح مجددًا، إلى أن بلغت بالنص وضعية بدا فيها قابلًا للعرض. وحتى تلك اللحظة ما كنت أعرف بعدُ ما يمكن أن أصنع بالمخطوط. لمن أرسله، لمن أعطيه؟ لا أعرف أي ناشر، ولا أعرف أي شخص يعرف ناشرًا. فكرت تفكيرًا مبهمًا في دار نشر L’Age d’Homme، بيد أن صديقًا قال لي: “ينبغي البدء بدور النشر الثلاث الكبرى في باريس“، وأعطاني عناوين ثلاثة دور نشر: (غاليمار)، (غراسيه)، (سُوي). طبعت ثلاث نسخ من المخطوط، جهزت ثلاثة طرود، وكتبت ثلاثة رسائل متطابقة: “سيدي المدير …”
في اليوم الذي أرسلت فيه تلك الطرود، أعلنت الأمر على ابنتي الكبرى: “لقد أنهيت روايتي“.
قالت لي: “آه نعم؟ وهل تحسبين أن ثمة من سينشرها؟”
أجبتها: “أجل، بالتأكيد“.
وفعلًا، ما كنت أشك في الأمر لحظة. كنت على يقين بأن روايتي جيدة، وأنها ستُنشر دون مشاكل. لهذا لم أشعر بالإحباط بقدر ما شعرت بالدهشة وأنا أرى مخطوطي يعود من (منشورات غاليمار)، ثم من (منشورات غراسيه) مصحوبًا برسالة مهذبة وغير شخصية. قلت لنفسي ينبغي أن أشرع في البحث عن عناوين ناشرين آخرين، وإذا بي أتلقى اتصالًا هاتفيًا في ظهيرة نوفمبرية. في الطرف الآخر من الخطّ كان يتحدث (جيل كاربونتييه) المسؤول بـ(دار نشر سُوي). أخبرني أنه قرأ مخطوطي، وأنه لم يقرأ شيئًا بتلك الروعة منذ سنوات. قال أنه أعاد قراءته كاملًا بعدما كان قد قرأه مرّة أولى، وأنه ينوي نشره. لكنّه ما يزال يحتاج موافقة عدّة أشخاص ليستطيع القيام بذلك، وأنه سيعيد الاتصال بي في بضعة أسابيع. وأعاد الاتصال بي بعد أسبوع قائلًا: “إني أجهز العقد“.
وتختتم هذا الفصل باقتباسها عن نفسها، حين سألها أحدهم في برلين عن الكتابة والكاتب، فأجابته:
نصير كُتّابًا، حين نكتب بإصرار وأناة، دون أن نفقد البتّة إيماننا في ما نكتبه.
وفي لقاء صحفي مرفق بالكتاب، قام به (ألييت أرميل)، تحدثت عن أسلوبها في الكتابة، فقالت:
أبدأ دائمًا بالكتابة يدويًا على دفاتر، أدوّن الأفكار، مثلما ترد عليّ، دون أن أرجع إلى المعجم، دون أن أن أصحّح. ولا أكتب بشكل خطي: أكتب مقاطع تصير فيما بعد في وسط الكتاب أو في أوله أو في آخره. أثناء الكتابة لا أكون على بيّنة من الأمر. لا تصير الصورة واضحة إلا حين أبدأ في الرّقم والاختيار بين الصيغ المختلفة، وفي تحديد الترتيب المفترض ما بين المقاطع التي تم الاحتفاظ بها؛ إذاك فقط تتشكّل عندي فكرة واضحة عن الكتاب، أحذف الكثير.
وفي موضع آخر باللقاء عن معنى الكتابة تقول:
الأمر غالبًا على هذا النحو: أن تكتب معناه أن تنقاد لشيء شبيه بالحلم. كما الأحلام تعود إلى الظهور في الكتابة.
وتقول أيضًا:
مهما كان كِتابٌ ما حزينًا، فإنه لن يبلغ قطّ درجة حزن الحياة.