رحلة القواميس والبشر
متى آخر مرة رأيت فيها قاموسًا في العالم الحقيقي؟
لعله يجدر بنا هنا كبداية أن نسأل القارئ، كم مرة رأيت فيها قاموسًا؟ ومتى آخر مرة رأيت أحدها في العالم الحقيقي، دع عنك القواميس الإلكترونية، أعني قاموسًا من ورق ومجلّدات من الغلاف إلى الغلاف، ومطبوعًا بالحبر، ألا تتفق أن من الشيق أن تتذكر أول وآخر كلمة في القاموس. كم قاموسًا في بيتك؟ وماهي كلمتك المفضلة فيه؟
بالنسبة لي فأول القواميس التي أتذكرها كان قاموسًا في مكتبة بيتنا، وهو قاموس إنجليزي/عربي متخصص في المصطلحات العلمية والفنية والهندسية لـ(أحمد شفيق الخطيب) صدر عام ١٩٨٠م، وأذكر معه (قاموس المورد مزدوج اللغة) لـ(البعلبكي) من العام نفسه، وهذا القاموس على التحديد كان مبعث دهشة مردها القسم الخاص بالأمثال العربية وما يقابلها بالإنجليزية.
وكذلك أذكر (قاموس المنجد في اللغة الأعلام والأماكن) الذي احتفل قبل فترة بمئوية إصداره، لقد كان يمنحنا الدهشة النقية كأطفال، وأذكر متعتي بتصفحه مثل تصفح أي مجلة ملونة للأطفال، لا سيما وقد كان ملونًا وعلى قدر من الإخراج الرائع على مقاييس تلك الأيام وهذه الأيام حتى.
ولا أنسى (المورد المزدوج)، و(مختار الصحاح) الذي اقنيته أول مرة من رف منسي في مكتبة الحي الصغيرة، وأيضا (المعجم اللطيف للعبارات الاصطلاحية في اللغة الانجليزية) Idioms للأستاذ (عبدالعزيز الذكير)، وأيضا (معجم المتلازمات اللفظية) للدكتور (حسن أبو غزالة) والذي يحقق لمستخدمه من المترجمين أقصى درجات الدّقّة في استعمال اللّغة الجميلة والمتناسقة تناسقاً بلاغياً بارعاً يُقوّم اللّسان ويأخذ بالألباب.
ويمكن أن يذكر المرء أنواعاً أخرى مختصة من المعاجم لا حصر لها مثل (معجم أسماء العرب) الذي رعى إنجازه (السلطان قابوس بن سعيد) سلطان عُمان حيث كلف المختصين في التسعينات الميلادية بالقيام بدراسة ضخمة على مستوى الوطن العربي لتوثيق كل اسم مستخدم اليوم وإحصاءها مع تسجيل معانيها وأسماء من تسمو بها قديمًا وحديثًا. و(معجم المناهي الشرعية اللفظية) للشيخ (بكر أبوزيد) و(معجم الأخطاء الشائعة في اللغة) لـ(العدناني) و(كتاب فقه اللغة) لـ(الثعالبي).
لقد استمرت علاقة الناس بالقواميس إلى اليوم، فلا يلبث المرء بين وقت ووقت حتى يعود لبحث معنى في (المعجم الوسيط) أو (مختار الصحاح) أو (قاموس المتلازمات اللفظية) –بالذات حين الترجمة-، وحتى لا نجني كثيرًا على التقنية ودورها، هنا دور القواميس الإلكترونية في منحنا السرعة –تلك السرعة التي أقول أننا نحتاج للاستعجال في التخفف منها أحيانا- فأذكر أدوات رائعة مثل (موقع ريفيرسو) المتخصص في ترجمة السياق بلغات شتى، و(صفحة الباحث العربي) الذي تجلب إليك كل المعاني من كل القواميس العربية. لكني مع هذا وفي نهاية المطاف وفي عالم اليوم وهو عالم يقوم أحيانا على النديَّة بين التماثلي والرقمي لا أملك إلا أن أفيء لطفولتي وللحنين إلى تلك الأيام الجميلة فأتحيز لكل ما هو ورقي.
وقد يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن أنواع القواميس، تصنفيها من حيث الشكل، نعني أن يكون هنالك قاموس ورقي على شكل مجلد، وتصنيف ثانٍ يكون فيه القاموس إلكترونيا منشورًا على شبكة الإنترنت أو على تطبيقات الهواتف الذكية.
والموسوعة البريطانية تصنف القواميس في الصفحة المعنية بالقواميس إلى قواميس عامة موجهة إلى المستخدم غير المتخصص العادي، وقواميس مخصصة للدارسين الأكاديميين، مثل على النوع العام قد يكون (قاموس اللغة الإنجليزية ميريام ويبستر) الذي تعود تسميته إلى (ويبستر) الذي كتبه أول مرة ثم إلى (عائلة ميريام) التي عالجت واشترت حقوق طبع ما أعده (ويبستر).
أما النوع الثاني فيخصص للبحث في أصول اللغة ويجمع الكلمات القديمة للغات وكذا قد يجمع الكلمات المستحدثة في البلدان التي تستخدم اللغة الانجليزية.
وهنالك نوع ثالث في الموسوعة البريطانية مخصص لتغطية كل تنوع ممكن في ألفاظ الكلمات وطريقة النطق وكذلك الاستخدام وبحث ارتباط الكلمات باللفظ القديم.
هنا تجدر الاشارة إلى الفرق بين المعاجم العربية والأجنبية، فالمعاجم الأجنبية عامة فهي عبارة عن مسرد تصنف فيه المفردات حسب تسلسل الأبجدية، أي أنها لا تنتظم في نظام واحد. أما المعجم العربي فهناك طرق مختلفة لتصنيف المفردات، فالاشتقاق وسيلة، بمعنى اشتقاق الألفاظ من جذرها الثلاثي، وهناك التصنيف حسب الترتيب الصوتي.
وللتوسع أكثر في مجال القواميس العربية فحسب فهناك تصنيف يعتمد على اصطلاح الترتيب ويعني لطريقة التي عالج بها المعجميون القدماء، تنظيم مادَّتهم المُعجمية وينقسم إلى طريقتين الترتيب الخارجيُّ للمداخل: ويسمَّى بالترتيب الأكبر، ويَتِمُّ ذلك باتِّباع طريقة من طرائق الترتيب القائمة على الحروف الهجائية وأولها الأسلوب المعتمد على المخرج الصوتي كما ذكرنا آنفاً وثانيها الأسلوب المعتمد على الترتيب الألفبائي العادي ولا حاجة لنا ربما هنا في سرد كل مؤلفات العرب العديدة في هذا المجال ففي البحث عنها في مظانها للمهتم غُنية عن الاستطراد.
لقد بدأتْ كتابة القواميس بمحاولة بسيطة لجمع كل الألفاظ بين دفتي كتاب في القرن الثامن عشر، ثم تطور إلى طباعته مع حشد كل الشروحات لكل لفظ بعد هذا الأمر بعدة قرون، ثم حان عصر الرقمنة فجمعت كل القواميس على أقراص رقمية تتيح للباحث عن المعنى استخراج المعاني من على شاشة الكمبيوتر، صار هذا التسارع الرقمي رافدًا لسهولة وسرعة بحث المعاني واستخراجها بشكل آلي، فلا يهم أن يتعرف المرء على وسيلة استخدام القاموس، بل صار هناك مواقع عديدة مثل (الباحث العربي) أو (المعاني)، التي تضع في صندوق البحث كلمة أو جزءً من الكلمة حتى يستخرج لك كل ما ورد في كتب اللغة الكبيرة ويظلل المادة التي تريدها بلون مغاير، صار الناس الذين يعملون في مجال الكتابة الابداعية يلجأون بسرعة إلى تلك الأدوات سعيدين بسرعة الوصول إلى المعلومة.
وصار من التحدي بمكان العمل عبر الجهات التي ترعى تلك المعاجم إلى القيام بنحت كلمات جديدة ومتابعة إضافتها إلى المعاجم من حيث شيوع استخدامها، والتحدي الأكبر في هذا الصدد يقع على كاهل اللغات الأخرى غير اللغة الإنجليزية في نقل تلك الألفاظ من جديد إلى اللغة المستخدمة، وهذا موضوع مكمل لفكرة القواميس من حيث المبدأ ويستحق أن يفرد له مقال بأكمله.
سألوا (آلان مور) عن أجمل الكتب التي أهديت إليه فأجاب بأنه النسخة الثانية الكاملة لقاموس دار راندوم هاوس الأمريكية للنشر للغة الإنجليزية، وقال: “لقد كان أول هدايا زوجتي العديدة”. أما (أليستر كروسلي) فقد صرح مرة أن أكثر كتب السحر قوة هي قواميس اللغة، إن القواميس مراكب سحرية تعبر بنا العبور العظيم، ذاك العبور السحري من الرمز إلى المعنى، فمن خلالها نملك نواصي النفاذ إلى عوالم التعابير السحرية الجميلة الممكنة، “وإن من البيان لسحرا”.
يجب أن نحب القواميس لأن القاموس يمنح من يتصفحه ذلك الشعور بالدهشة ويتيح له متعة الاستكشاف العَرَضي، تلك المتعة التي تصادفك وأنت تستخدم قاموسًا أو معجمًا ورقيًا فتعثر على كلمات عديدة أثناء بحثك عن كلمة ما. وهنالك سبب آخر كي نحب القواميس وهي أنك وأنت تستخدم القاموس بحثًا عن كلمة ما يجب أن تمسح ببصرك كل ما يسبقها أو يليها من كلمات قبل أن تعثر عليها، ونحن نعلم أن الاتصال عبر اللغة التي قوامها الكلمات هو مصدر من مصادر قوة البشر، وقوة التواصل بعد ذلك تعني قوة مخزون الكلمات، وهذا سبب آخر للإبحار في البحر العظيم، فمخزون كلمات أكثر يعني قوة تعبير أبلغ.
بقلم: علي الضويلع تحرير: أحمد بادغيش