البراجماتيّة الأمريكية و البراجماتيّة التلموديّة عند المسيري
إن أسطورة العالم الجديد الذي يتحلّى بالبساطة و البراءة، و الذي هو أقرب إلى الفردوس الأرضي؛ تُسيطر على الوجدانين الأمريكي و الصهيوني
عبدالوهاب المسيري (1938-2008) هو مفكر وعالم اجتماع مصري، في كتابه (الفردوس الأرضي) و الذي نُشر مرة واحدة عام 1978م في بيروت و لم يُنشر ثانية، برغم أهميته الفائقة في إلقاء الضوء على مرحلة فارقة في حياة مؤلّفه العلاّمة, وتطوّره الفكري.
يقول موطّداً لأوجه التشابه بين الوجدان الأمريكي و الصهيوني و تطابقهما – على الرّغم من أن الحضارة الأمريكية لايزيد عمرها على بضعة قرون, بينما تتباهى الحضارة اليهودية الإسرائيلية بتاريخ قديم قِدم الإنسان – بقوله:
ولعلّ أهم أوجه التّشابه بين الوجدانين أنّ كليهما يرفض التاريخ بعناد و إصرار، أو على الأقل يحوّله إلى أسطورة متناهية في البساطة. و قد بدأ التاريخ الأمريكي حينما استقلّ البيوريتانيون سفنهم و هاجروا من أوروبّا إلى العالم الجديد أو أرض الميعاد؛ هرباً من المشاكل التي أثارها التاريخ الأوروبي. و البيوريتانيون أو التطهيريون هم لفيف من البروتستانت المتطرفين، الذين وجدوا من العسير عليهم البقاء داخل الكنيسة الإنكليزية لأنها – حسب تصوّرهم – لم تبتعد بما فيه الكفاية عن النمط الكاثوليكي في العبادة بما فيه من طقوس و تماثيل و زخارف؛ و طالبوا بتطهير العبادة المسحية من كل هذه العناصر الدخيلة التي لم يأتِ لها ذكرٌ في العهدين القديم و الجديد.
إن العودة للبساطة الأولى للتطهيريين، الذين حاولوا تشييد مدينتهم الفاضلة أو -صهيون الجديدة كماكانوا يسمونها- حسب المثل و القواعد التي وضعها و طبّقها المسيحيون الأُول ( ولمَ لا؛ أليسوا هم النخبة الصالحة التي ورثت رؤى العهد القديم و الجديد؟ ). ولذا يُمكننا القول إن الوجدان البيوريتاني يرفض التاريخ المسيحي كله، بل يرفض أية رؤية تاريخية على الإطلاق؛ لأن العودة إلى البساطة الأولى ( وهي نقطة سكون ميتافيزيقية غير متطورة أو متغيّرة ) تصبح واجب كل فرد في كل زمان و مكان.
يتجلّى أثر هذا التصوّر البيوريتاني في الأعمال الأدبية و الفنيّة الأمريكية و ذكر منها: قصائد إيميلي ديكنسون و أشعار والت ويتمان.
و في مقابل الرفض البيوريتاني الأمريكي، الرفض الصهيوني الإسرائيلي للتاريخ اليهودي في الدياسبورا (الشتات).
يُوضّح ذلك بقوله:
فالصّهاينة يرون أن الوجود اليهودي في أي حضارة غير يهودية ظاهرة شاذة و علامة على المرض الروحي؛ ولذلك فهم أيضاً يعودون إلى ” البساطة الأولى ” أيام كان اليهود يعيشون ككيان قوميّ مستقل فريد لم تدخل عليه الشوائب ( التاريخية ) المختلفة؛ غير اليهودية. و الصّهاينة يرون أن التاريخ اليهودي يؤدي إلى النهاية الإسرائيلية السعيدة و في الفردوس اليهودي الجديد يحمل كل المواطنين أسماء عبرانية لها رنين خاص ( على عكس يهود الحركة الإصلاحية في أوروبا؛ الذين تخلوا عن أسمائهم العبرانيّة و سموا أنفسهم بأسماء أوروبية لا تميّزهم عن الشعوب التي ينتمون إليها).
يُلخّص هذا التشابه بقوله:
إن أسطورة العالم الجديد الذي يتحلّى بالبساطة و البراءة، و الذي هو أقرب إلى الفردوس الأرضي؛ تُسيطر على الوجدانين الأمريكي و الصهيوني.
و أمّا عن فهم المدينة الفاضلة فلم يختلف فهم البيوريتان عن فهم الصّهاينة لإسرائيل؛ فهم كانوا مقتنعين تمام الاقتناع أنهم هاجروا من أوروبا للعالم الجديد ليُنشئوا ” مدينة على التلّ ” تنظر إليها كل الأمم و تحاكي أفعالها، وبذا يعمّ الخير و يأتي الخلاص. و المفهوم البيوريتاني للتاريخ مفهوم ديني ضيّق، يرى في كل شيء علامةً مرسلة من الله يستشهد بها على شيءٍ مّا. و كما هو الحال مع الإسرائيليين، نجد أن البوريتانيين استخدموا هه ” العلامات” الربّانية لتبرير كل أعمالهم العدوانيّة، من إبادة للهنود الحمر و احتلال لأراضي الغير. وقد استمر هذا التزاوج بين الأحلام الدينيّة و الأحلام القوميّة التوسّعية الأمريكيّة حتى القرن التاسع عشر, فوالت ويتمان كان يؤمن بالفتوحات التوسّعية (في المكسيك و غيرها) بنفس إيمان المسيحي بـ : السر الإلهي على حد قوله، كما كان يحلم بأمريكا العظمى التي تمتد من كندا و من القطب إلى خط الاستواء, وكان يسمي هذا بـ “الرؤيا العذبة“.
أما أوسوليفان المفكر الأمريكي التوسّعي. فقد كان يسمّي هذا التوسّع بـ “القدر الجليّ“، وهو قدر لأنه مكتوب على الأمريكيين أصحاب الرسالة الخالدة، وهو جليٌّ لأنه واضح للعيان ولا جدل فيه.
و عقليّة الريادة تُسيطر على كلٍ من الصّهاينة و الأمريكيين؛ فالبوريتانيون “اكتشفوا” أمريكا ثم انتشروا فيها عن طريق إنشاء مستعمرات ذات طابع زراعي عسكري. و المستوطنون الصّهاينة هم الآخرون “اكتشفوا” فلسطين واحتلّوها بنفس الطريقة.
وعقليّة الرائد عقلية عملية تفضّل الفعل على الفكر, و النتائج العملية على الاعتبارات الخلقية.
و لعلّ وجه الشبه الرئيسي بين الوجدانين الأمريكي و الصهيوني الإسرائيلي هو العنف العصري، فرفض التاريخ نتج عنه تعامٍ عن الواقع وتجاهل لكل تفاصيله.
ولذلك وقع البيوريتانيون والصهاينة في تناقضات رؤياهم المثالية القبيحة، رؤيا عالم جديد بريءٍ لا يمكن أن يُشيّد إلا عن طريق العنف و الإبادة، إبادة الهنود الحمر و الفلسطينيين؛ الفردوس و الجحيم في آنٍ واحد.
و من أوجه التشابه الرئيسية بين المجتمعين الإسرائيلي و الأمريكي؛ أنّ كليهما مجتمع استيطاني يتكوّن من المهاجرين الذين عليهم أن يطرحوا عن أنفسهم هويّتهم القديمة، ليكتسبوا هويّة قوميّة جديدة بمجرد وصولهم إلى نيويورك أو حيفا.
و اكتساب الهوية الجديدة هو مشكلة المشاكل بالنسبة لكل المجتمعات الاستيطانية الرافضة للتاريخ و التراث، و التي تُفبرك “تراثاُ جديداً” يدور حول أسطورة بسيطة يؤمن بها “الإنسان الجديد” .
فأمريكا استحدثت أسطورة “آدم الديمقراطي الجديد”، الذي يأتي إلى الأرض أو الجنة العذراء ليقيم فيها، ويستلهم كل مافي التراث العالمي من إيجابيات و ينفتح على كل الحضارات اليهودية الخالصة، والذي يهاجر إلى أرض الميعاد اليهوديّة ليحارب غي جيش يهوديّ، و يزرع في حقل يهودي، ويقرأ في كتاب يهودي ( وربما يحب على الطريقة اليهودية و يقتل بالطريقة نفسها ).
و على المستوى الإعلامي يُؤكّد المسيري على ضرورة فهمنا للعلاقة المشتركة بين المجتمعين بقوله:
يجب أن نضع في اعتبارنا أنه من اليسير على الشعب الأمريكي فهم العقلية الإسرائيليّة و التعاطف مع الشعب الإسرائيلي و قيَمه اللاأخلاقية من عنصرية و عنف، نظراً للتشابه بين وجدان الشعبين. و هذه النتيجة ليست فيها أيّة دعوة لليأس، و إنما هي مجرّد تعرّف على عنصر موجود بالفعل إن لم نعترف به هزمنا و أُفشلت خططنا. أما اعترافنا به فيساعدنا على معرفة حدود و مدى أي حملة إعلامية نقوم بها.
إن الشّعب الأمريكي وقادته الذي تسيطر عليهم عقلية الرائد و الكاوبوي؛ لايفهمون سوى منطق القوّة ولايعترفون إلا بالنتائج العمليّة المباشرة لذلك فالإعلام الذي لاتسنده قوة أو وضع قائمٌ بالفعل ماهو إلا دعوة للأخلاق الحميدة لن يُنصت لها إلا ذوو النوايا الطيبة و حتى هؤلاء سينسونها و ينسوننا بعد دقائق.