رسائل (أوستر) و(كوتزي) عن الرياضة
بول أوستر، كاتب وروائي أمريكي، من مواليد 1947، تمزج كتاباته بين الوجودية، وأدب الجرائم، والبحث عن الهوية في أعمال مثل؛ (ثلاثية نيويورك) و(كتاب الأوهام) و(حماقات بروكلين). تُرجمت كتبه إلى حوالي أربعين لغة. أما جيه. إم. كوتزي، فمن مواليد 1940، كاتب وروائي ومترجم، من جنوب إفريقيا، حصل على جائزة نوبل في الآداب لعام 2003. من أعماله؛ (عصر الحديد) و(العار) و(العدو) و(إليزابيث كوستلو).
في كتاب (هنا والآن)، نُشرت عدد من الكلمات التي تراسلها الكاتبان على مدار أربع سنوات، تحديدًا من 2008 وحتى 2011. وقد وردت رسالة من (كوتزي) يشتكي فيها تضييع أوقاته في مشاهدة الألعاب الرياضية، فقال:
30 ديسمبر 2008
عزيزي بول،
[…]
الصيف في ذروته في هذا النصف من الكوكب، وقد قضيت أغلب يوم الأحد جالسًا أمام شاشة التلفزيون، أشاهد ثالث يوم في مباراة الكريكت خماسية الأيام بين منتخبي أستراليا وجنوب إفريقيا الوطنيين. استلبتني تمامًا، انغمست فيها عاطفيًا، فما عدت أقدر على انتزاع نفسي إلا بشق الأنفس. وكنت لكي أشاهد المباراة قد أزحت الكتابين أو الثلاثة التي كنت أقرأ فيها.
الكريكت تلعب منذ قرون. ومثل جميع الألعاب، هناك الكثير جدًا من الحركات التي يمكنك أن تقوم بها، كثير جدًا من التأثيرات التي يمكنك أن تحدثها. محتمل جدًا أن لا تكون مبارة الثامن والعشرين من ديسمبر في ملبورن بجميع تفاصيلها إلا صورة طبق الأصل من كل ناحية ذات شأن لجميع تفاصيل مباراة كريكت في مكان أخر. لا بد أن كل متابع جاد لا يبلغ الثلاثين من عمره إلا وقد مر بلحظات (ديجافو)، بل لعل الأمر يتجاوز اللحظات إلى الفترات الكاملة. وإذن فثمة مبرر قوي للقول بأن كل شيء قد حدث من قبل. في حين أن هناك شيئًا واحدًا يمكنك قوله في حق كتاب جيد، وهو أنه لم يُكتب من قبل.
ما الذي يجعلني إذن أضيع وقتي مرميًا أمام شاشة التلفزيون أشاهد الصغار يلعبون؟ إنني أقر بأنها مضيعة للوقت. صحيح أنني أجني خبرة، ولكنني لا أجد في هذه الخبرة نفعًا من أي نوع كان. أنا لا أتعلم شيئًا. لا أخرج بأي شيء.
هل أيٌّ من هذا مألوف لديك؟ هل يمس فيك وترًا تعرفه؟ هل الرياضة ببساطة كالخطيئة؛ يستهجنها المرء لكنه يتوق إليها بدافع من ضعفه البشري؟
صديقك إلى الأبد،
جون
فكان رد (أوستر) المطوّل بعد ذلك:
10 جون 2009
عزيزي جون،
[…]
أتفق معك أنه نشاط تافه، مضيعة حقيقية للوقت. ومع ذلك ما أكثر الساعات التي ضيَّعتها من حياتي بهذه الطريقة على وجه التحديد، وكم من أصائل بددتها كما فعلتها أنت في الثامن والعشرين من ديسمبر. الحسبة كلها لا بد أن تكون صادمة، ومجرد التفكير فيها يملؤني بالخجل.
تتكلم مازحًا عن الخطيئة، لكن ربما المصطلح الحقيقي هو “المتعة المصحوبة بإحساس بالذنب” أو ربما “المتعة” وحسب. في حالتي أنا، الرياضات التي أهتم بها هي تلك التي كنت ألعبها بانتظام في صباي. يجد الواحد نفسه فاهمًا اللعبة فهمًا حميمًا، ومن ثم يكون قادرًا على تقييم براعة المحترفين ومهاراتهم المدوِّخة في كثير من الأحيان. لا أبالي مطلقًا بهوكي الجليد على سبيل المثال لأنني لم ألعبه قط ولا أفهمه حقًا. وفي حالتي أيضًا، أميل إلى التركيز على فرق معينة ومتابعتها. وانغماس المرء في المشاهدة يزداد عمقًا حينما يكون اللاعبون مألوفين له فردًا فردًا، فكلُّ منهم شيء معلوم، وهذه الألفة تزيد المرء قدرة على احتمال الملل، في كل تلك اللحظات السقيمة التي لا يحدث فيها أي شيء من أي نوع.
لا شك أن في الرياضة مكوّنًا سرديًا قويًا. نحن نتابع التفافات الصراع وانعطافاته لنعرف النتيجة النهائية. لكن لا، ليست بالضبط كقراءة كتاب -على الأقل ليست كالكتب التي نكتبها أنت وأنا-. لكنها قد تكون على علاقة وثيقة ببعض أنواع الأدب. فكِّر مثلًا في روايات الإثارة، والروايات البوليسية، التي تبقى دائمًا نفس الكتب، تتكرر بلا نهاية، آلاف التنويعات البسيطة على نفس القصة، ومع ذلك تجد الجمهور جائعًا إلى هذه الروايات جوعًا رهيبًا. وكأنما كل واحدة هي أداء جديد لطقس ما.
نعم، الجانب السردي هو الذي يبقينا حتى اللعبة الأخيرة، حتى دقة الساعة الأخيرة، ولكنني بصفة عامة أميل إلى أن أنظر للرياضة بوصفها نوعًا من الفن الأدائي. أنت تشكو من إحساس الديجافو في كثير من الألعاب والمباريات. لكن ألا يحدث لك مثل هذا عندما تذهب إلى حفل سوناتا البيانو المفضلة لديك من أعمال (بيتهوفن)؟ أنت تعرف المقطوعة عن ظهر قلب ولكنك تريد أن تسمع كيف يكون تفسيرها لدى عازف البيانو هذا بالذات. فهناك عازفو بيانو مشَّاؤون، وهناك عداؤون، ثم يأتي من يجعلك تحبس أنفاسك.
لا أعتقد أن حفلين موسيقيين تشابها يومًا تمام التشابه، في كل حركة. ربما. ندف الثلج جميعها تبدو متشابهة، ولكن الحكمة السائرة تذهب إلى أن لكل منها فرادتها. أكثر من ستة بلايين إنسان يسكنون هذا الكوكب، ويفترض أن بصمة أصابع كل واحد منهم تختلف عن أي شخص سواه. وفي مئات مباريات البيسبول التي شاهدتها -وربما الآلاف- هناك في كل مباراة تفصيلة صغيرة أو حدث لم يمر بي من قبل في أي مباراة أخرى.
الجديد فيه متعة، والمعروف أيضًا فيه متعة. متعة تناول طعام يعرفه المرء، متعة الجنس. مهما تكن غرابة الحياة الإيروتيكية للواحد منا، الأورجازم أورجازم، ونحن ننتظره بمتعة منبعها المتعة التي عرفناها فيه والتي منحها لنا في الماضي.
ومع ذلك، يظل المرء يشعر بالغباء بعد أن ينفق يومًا كاملًا أمام التلفزيون يشاهد الصغار يتدافعون بأجسادهم. الكتب الموضوعة على المنضدة لم تُقرأ بعد. لا تعرف في أي شيء مضت الساعات، والأسوأ، أن فريقه خسر. لذلك أقول لك من باريس، وأنا عارف أن عمالقة كرة القدم في نيويورك سوف يلعبون غدًا مباراة مهمة وحاسمة ضد فريق قوي من فيلاديلفيا، أنني لن أتمكن من المشاهدة، وهذا يملؤني بالندم.
مع سلام هائل لك عابر للمحيطات والقارات،
بول.
وعلى ذلك رد (كوتزي) برسالته القصيرة:
6 أبريل 2009
عزيزي بول،
[…]
لا أحب من الرياضات ما تحمل نفسها على محاكاة الحرب، فيكون المهم فيها الفوز، ويكون الفوز فيها مسألة حياة أو موت، تلك الرياضات التي تخلو من الجمال، مثلما تخلو الحرب من الجمال. وفي أعماق عقلي، رؤية مثالية -لعلها ملفقة- لليابان، حيث شخص يحجم عن إلحاق الهزيمة بخصمه لأن ثمة عارًا في الهزيمة وعارًا في إلحاق الهزيمة.
أفضل الأمنيات،
جون.
وكان رد (أوستر):
8 أبريل 2009
عزيزي جون،
[…]
عندما اتستخدمت عبارة “لذة المنافسة”، أظن أنني كنت أشير إلى إحساس الانطلاق الذي ينتابك عندما تمنح نفسك كاملةً للعبة، والنفع الذي يجنيه الجسم والعقل من جراء التركيز المطلق في مهمة معينة في لحظة معينة، إحساسك بأنك “خارج نفسك”، وتخفِّفك مؤقتًا من عبء وعيك بذاتك. الفوز والخسارة لازمان لكنهما عاملان مؤثران ثانويان، ما هما غير مبرر لكي يبذل المرء أقصى جهده في إجادة اللعب، لأنه بغير بذل أقصى الجهد، لا يمكن نيل اللذة الحقيقية.
[…]
أريد من هذا أن أقول إنني معك. ليست الفكرة في الفوز، بل في الأداء، أدائك أقصى ما في وسعك. […] وإذن، لذة المنافسة تبلغ ذروتها عندما يتساوى الخصمان.
مع أفضل الأفكار،
بول.
فقال (كوتزي) في رسالة أخيرة:
19 يوليو 2010
عزيزي بول،
[…]
في الرياضة فائزون وخاسرون، لكن ما لا يبالي أحد بقوله هو أن الخاسرين أكثر بكثير من الفائزين. في بطولة فرنسا التي تجري منافساتها بينما أكتب إليك، بدأت المنافسة بحوالي مئتين، من بينهم واحد فقط سيكون الفائز، ومئة وتسعة وتسعون هم المهزومون، بمعنى أنه مهما تكن القصص التي سيعزّون أنفسهم بها هم مهزومون.
الرياضة تعلمنا عن الخسارة أكثر بكثير مما تعلمنا عن الفوز، وذلك ببساطة لأن كثيرين للغاية من بيننا لا يفوزون. وأهم ما تعلمه هو أنه لا بأس بالهزيمة. الهزيمة ليست أسوأ ما في العالم، ففي الرياضة، خلافًا للحرب، لا ينحر الفائز عنق المهزوم.
تأمل تلك اللحظة بالغة الإثارة في حياة الصبي الصغير حينما يشارك في لعبة يتظاهر فيها الكبار أو الصبية الأكبر سنًا أنهم ينهزمون أمامه فيفوز طوال الوقت ويشعر كما لو أنه ملك صغير، وينتقل إلى الرياضة الحقيقية التي إذا لم تضرب الكرة فلا مكان لك في اللعبة، والتي تتنازل فيها عن المضرب لمن هو خير منك وتتقاعد أنت دونما مجد. تلك تكون صدمة للنظام النفسي لدى الصبي الصغير. تنتابه رغبة في الصراخ والغضب، وتجريب كل الحيل النافعة على أبويه. يريد أن يخضع الواقع لذاته. فلا يصل به كل ذلك إلى شيء. يقال له فقط: “امسح مخاطك يا ولد”. ويُقال أيضًا: “امسح مخاطك يا ولد، واستعد لجولة أخرى”.
لأن ذلك هو درس الرياضة العظيم: أنك تخسر أغلب الوقت، لكن ما دمت في اللعبة فثمة دائمًا غد، وفرصة لاسترداد نفسك.
في هذه المدرسة العظيمة المخصصة لتعلم الخسارة، لا يطردونك ما لم ترفض تقبل الخسارة، ما لم ترفض قرار المباراة وتتقاعد إلى عزلة جليلة.
[…]
مع أفضل أمنياتي،
جون.