الخوف، الأمل والحنين، كأعداء للحياة الطيّبة، برأي لوك فيري
لوك فيري، فيلسوف فرنسي، من مواليد 1952. شغل منصب وزير التربية والتعليم في فرنسا ما بين 2002 و2004. هو واحد من الفلاسفة الفرنسيين الجدد، الذين أحدثوا تحولا عميقا في الأوساط الفلسفية السائدة، برموزها المعروفة أمثال (جاك دريدا) و(جاك لاكان) و(جيل دولوز) و(ميشال فوكو) وغيرهم، لاعتقادهم أنّ الفلسفة ضلت الطريق بتوغلها في مباحث فكرية ومعرفية عويصة ومعقدة لا يفهمها إلا خاصّة الخاصّة. في كتابه (أجمل قصة في تاريخ الفلسفة)، كتب بأن كل الفلسفات تهدف إلى رسم “حياة طيّبة” كما اختار أن يعبّر. يقول:
أؤكد هذا الأمر لأنه هو الأساس بحق: كل الفلسفات الكبرى، بلا استثناء، لديها اهتمام بمسألة الحياة الطيّبة، المرتبطة دومًا، صراحة أو ضمنًا، بمسألة التغلب على ضروب الخوف، ولا سيما مسألة الموت والتناهي الإنساني. وبالفعل، قد لا يكون للمرء، من منظور شخصي، طبعٌ قلق. ولكن يبقى أن العمر قصير، وأنه إن تصورنا مع (اسبينوزا) أن الفلسفة هي “تأمل في الحياة، لا في الموت“، فلابد لنا من التساؤل، مهما يكن الأمر، عما يجدر بنا صنعه بحياتنا ما بين بدايتها ونهايتها، وكيف نُسيّر حياتنا على أفضل وجه في علاقة بالآخرين، ولاسيما بمن نحبهم ومن هم مثلنا فانون.
ثم يتطرق إلى أعداء تلك الحياة الطيّبة في فلسفته، فيقول:
لابد هنا من التذكير بأن الماضي والمستقبل في نظر اليونانيين يبدوان وكأنهما شرّان كبيران يٌثقلان على الحياة البشرية.
ثم يقول عن الماضي بأنه دائمًا ما يخلق واحة من الحنين، تبعدنا عن الحاضر، وتشوه نظرتنا إليه وإلى فهمه ومعايشته:
فالماضي يمنعنا من الإقامة في الحاضر، إما لأنه كان سعيدًا ويشدّنا في شباك الحنين، وإما لأنه كان شقيًا ويغرقنا في ما يسميه (اسبينوزا) بتعبير جميل “الأهواء الحزينة“، وفي ضروب الأسف والندم والخجل والشعور بالإثم، التي تصرفنا عن الفعل وتلجم مبادراتنا وتضعف قدرتنا على اغتنام الوجود والعيش في اللحظة الراهنة.
وعلى صعيد آخر، فالمستقبل هو الآخر يشدنا إلى حالة من الأمل، والتعلق بعالم خيالي، غير واقعي:
وعندئذ تساورنا الرغبة في الارتماء بين أحضان خيال وهمي آخر متجه هذه المرة نحو المستقبل: وهو الأمل. بيد أنه من وجهة نظر الفلسفة اليونانية الرومانية، ولا سيما من وجهة نظر الرواقية، لا يملك الأمل إلا أن يقودنا إلى الهلاك: إنه لا يزيف علاقتنا بالواقع الراهن فقط، وإنما يفرغه من قيمته المباشرة لفائدة تخمينات حول مستقبل غير مضمون. فإنه يظن المرء أنه سيصبح على حال أفضل حين يكون قد غيّر سيارته أو تسريحة شعره أو حذاءه أو أصدقاءه، أو سائر ما يريد، فذاك في نظر اليونانيين أكبر وهم.
فالحنين والأمل عدوّان للحاضر، يبعداننا عن الحياة الطيّبة التي نسعى إليها:
وبالفعل، فالحنين كما الأمل، والماضي كما المستقبل، كلها إن هي إلا عدم لأن الماضي زال والمستقبل لم يحِن بعد. فلا يمثلان إلا تقديرات خيالية تفقدنا البعد الواقعي الوحيد للزمن، وهو الحاضر، فنكاد لا نُقيم فيه أبدًا. وعلى حد تعبير (سينيك)، وهو أحد الرواقيين الكبار، فإننا من فرط العيش في الماضي أو المستقبل، “نفتقد الحياة“. وهنا نلتقى بمقولة (هوراس) الشهيرة: “اقطف يومك الحاضر، دون أن تتلهى عنه بمشاعر الغم على الآتي من الأيام أو الحنين إلى الماضي“. هذا ما يسميه (نيتشه): حب ما هو موجود، حاضر أمامنا، “حب المصير“.
من الحكمة إذًا معايشة الحاضر، بدلًا من الأمل المتعلق بالمستقبل، ومن الحنين أيضًا الذي يأخذنا إلى الماضي. فبمعايشة الحاضر نغدو قادرين بشكل أكبر على التصالح مع محدودية أعمارنا. فالموت بذلك يغدو مجرد حالة عبور من حالة إلى أخرى كما يقول:
فالموت ليس إلا حالة عبور، وانتقال من حالة إلى أخرى. فالحكيم الذي يفهم ذلك، يصبح قادرًا على التغلب على ضروب الخوف، بدءًا من الخوف من الموت. وتبعًا لذلك، لا شيء يمنعه من الإقامة في الحاضر بنفس مطمئنة.
والخوف هو العدو الأول للحياة الطيّبة، العدو الأول للحكمة، وهو المسبب الرئيسي لأن يغدو الناس حبيسين بين الماضي والمستقبل، بين الحنين والأمل:
وبهذا المعنى، يكون الخوف في نظر اليونانيين هو العدو الأول للحكمة. فهو، بتعبير بسيط، يحوّلنا إلى أغبياء وخبثاء ؛ أغبياء لأن دواعي خوفنا لا عقلانية في أغلب الأحيان، إن لم تكن حمقاء، فعندما تستبد بنا الحيرة، يشتد بنا ما يطلق عليه علماء علم النفس التحليلي “الرّهاب“، من البديهي أن هذا الرعب غير متناسب ويؤدي بنا إلى ردود فعل عبثية. إن الخوف، في الصيغة المتعارف عليها، هو “ناصح تعيس“. ولكنه يجعلنا أيضًا متمركزين حول ذواتنا، منغلقين تجاه الآخرين، إذ تحت وطأة الخوف، لا يفكر المرء إلا في ذاته، وهو على استعداد لأن يفعل أي شيء ليتقي الخطر الذي يهدده، إلى درجة ترك الآخرين في المواجهة، وحتى التضحية بهم. أما الحكيم، فهو نقيض المتخوف: إنه ذلك الشخص القادر على التغلب على ضروب الخوف، وبالتالي على التفكير بحرية، وعلى حب الآخرين والانفتاح عليهم. وهكذا تدركون أننا هنا نمسك بعدُ بإجابة رائعة عن مسألة الحياة الطيّبة.