أصل اللغات عند جان جاك روسو
يتحدث الإنسان ، ويكتب ويستخدم الإشارة أحيانًا.. وحين استدل البشر على علم حفظ الكلام ونقله، وتدوينه وتأريخه، كانوا قد أضاعوا الخيط الذي يخبرهم كيف بدأ كل ذلك، وكيف كانت الكلمات الأولى لبني جنسهم، وأولى الحروف والتصويتات. ومع مرور العصور وزيادة رغبة الانسان في تحصيل العلم أخذ العلماء من كل حقول العلم يحللون ويضعون الفرضيات عن بداية اللغات، ولنا أن نقول أنه قبل ظهور علم اللغويات أو اللسانيات ودراسته بمنهج علمي، قام أغلب هؤلاء العلماء من الحقول المختلفة بمحاولة إسقاط فرضيات علومهم على مسائل اللغة، ، وتوقع البداية بناءً على ذلك.
وهكذا فقد قام الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي جان جاك روسو (1712 – 1778) بمحاولته أيضًا، والدلو بدلوه فهذه المسألة من خلال تحليله لأصل المجتمعات الأولى. وتقوم نظرية روسو في أصل اللغات بشكل واضح على أن الانسان بدأ حياته على هذا الكوكب بدون لغة، وأنه اخترعها بسبب ظروف معينة.. حيث يوضح في كتابه “محاولة في أصل اللغات [تحميل]” قائلًا :
لقد كان الكلام أول مؤسسة اجتماعية للبشر و إنما يدين بشكله إلى أسباب طبيعية. فما إن تعرف بعضهم على بعض كائنًا حاسًّا ومفكرًا وشبيهًا به حتّى دفعه الشوق وحاجة إبلاغه لمشاعره وأفكاره إلى البحث عن وسائل لذلك الإبلاغ. وهذه الوسائل لا تستمد من غير الحواسّ، إذ هي الآلات الوحيدة التي يمكن بها للمرء أن يؤثر في غيره. وهاهي العلامات الحسية تُوظَّف إذًا للتعبير عن الفكر. إن الذين اخترعوا اللغة لم يستخدموا هذا البرهان ولكن أوحى لهم حدسهم بنتيجته.
ويزعم روسو أن البشر الأولين تحدثوا بالإشارة لأنها أيسر من الكلام وأقل خضوعًا للمواضعات، ولأن الأشكال أكثر تنوعًا من الأصوات، كما أنها أدقّ تعبيرًا وأكثر إيحاءً في وقتٍ أقل، ولكن كان على اللغة الظهور للتعبير عن الحاجات الأخلاقية والأهواء البشرية للإنس، فيقول:
إن ما نراه من الإشارات يزيد من دقة المحاكاة، ولكن إثارة الاهتمام أنجع بالأصوات. ذلك ما يجعلني أعتبر أنه لو لم تكن لنا قطّ غير حاجات طبيعية لأمكننا جدًّا أن لا نتكلم أبدًا وأن نتفاهم على التمام بمجرّد لغة الإشارة، ولكان بمقدورنا أن نقيم مجتمعات لا تختلف كثيرًا عمّا هي عليه اليوم أو هي أصوب تدرّجًا نحو هدفها، وأن نؤسس قوانين ونختار قادة ونخترع فنونًا ونقيم التجارة وباختصار أن نعمل من الأشياء بقدر ما نعمله منها بفضل الكلام. إن اختراع فن تبليغ أفكارنا ليس مدينًا للأعضاء التي تخدم هذا التبليغ بقدر ما يرجع إلى ملَكة تخص الإنسان هي التي تجعله يستخدم لتلك الغاية أعضاءه، بل تحمله إذا ما انعدمت تلك الأعضاء على استخدام غيرها لعين تلك الغاية.
ثمة إذن ما يحمل على الاعتقاد بأن أول الحاجات قد أملت علينا أوّل الإشارات وأن الأهواء قد انتزعت منّا أول التصويتات. ولعلّنا إذا ما تتبعنا أثر الأحداث بالاعتماد على هذه التمييزات ملزمون بالتفكير في أصل اللغات بأسلوب مخالف جدًا عن الأساليب التي اتُبعت إلى حدّ الآن. إن عبقرية اللغات الشرقية وهي أقدم ما هو معروف لدينا من اللغات تكذّب تكذيبًا مطلقًا ما نتخيله عن تكوّنها كتدرّجٍ في التعلّم. فليست هذه اللغات من الممنهج أو المعقول في شيء، بل هي حيّة ومجازية. يُراد إقناعنا بأنّ لغة الأولين هي لغات هندسيين في حين نرى أنها لغات شعراء.
لابد أن ذلك هو ما كان، فإنهم لم يبدأوا بالتفكير، بل بدأوا بالإحساس. ويدّعي البعض أن البشر إنمّا اخترعوا الكلام للتعبير عن حاجاتهم الأولى، يبدو هذا الرأي غير مقبول. فإن المفعول الطبيعي للحاجات الأولى إنما كان تفريق الناس لا تقريب بعضهم من بعض. لقد كان ذلك ضروريًا لأن يمتد الجنس البشري وأن تعمر الكرة الأرضية ولولاه لتكدّس الجنس البشري في ركن من أركان هذا العالم ولظلّ ما بقي منه مقفرًا. وينتج بوضوح من مجرّد ما ذكرنا أن أصل اللغات ليس سببه حاجات البشر الأولى. فمن غير المعقول أن يكون ممّا يفرّق بينهم ما يجمعهم. من أين يمكن أن يكون هذا الأصل إذًا؟ هو من الحاجات الأخلاقية ومن الأهواء. إن كلّ الأهواء تقرّب بين الناس الذين تجبرهم ضرورة البحث عن العيش على التباعد. فلا الجوع ولا العطش انتزعا منهم أول التصويتات، بل الحب والكره والغضب والشفقة. إن الثمار لا تفلت من أيدينا فيمكننا أن نتغذى بها من غير كلام. كما أننا في صمت نطارد الفريسة التي نريد أن نقتاتها، ولكن إذا ما أردنا التأثير في قلب شاب، أو صدّ معتدٍ أثيم، فإنّ الطبيعة تملي علينا نبرات وصرخات وأنّات، تلك هي أقدم الكلمات المخترعة، وذاك هو ما جعل اللغة الأولى شادية عاطفية قبل أن تكون بسيطة منهجية.