في الصداقة والصديق من الشرق والغرب
“مثل الفن والفلسفة: لا تبقينا الصداقة على قيد الحياة، ولكنها تعطي لهذه الحياة معنى” -سي. اس. لويس
لنتأمل في طبيعة الصداقة واختلاف هذ المفهوم الذي يضيق ويتسع من شخص لآخر. فانتشار العلاقات المشوشة في حياتنا اليوم عبر منصات التواصل الاجتماعي والإفراط في استخدام كلمة “صديق” أدى إلى تآكل المعنى الأرسطي للصداقة وضغط الفسحة الوجودية المتسعة بين المعرفة والصداقة.
(ألكساندر نيهماس) أستاذ العلوم الإنسانية المختص بالفلسفة اليونانية في جامعة برنستون في كتابه “عن الصداقة” يبدأ بالحديث عن المكانة الرفيعة التي خُصَّتْ بها الصداقة “philia” في الفكر اليوناني، فالمؤسسة الأرسطية ترى أن الصديق ذاتٌ أخرى، كما أنها ترتكز على فكرتين رئيستين: الأولى أن الصداقة من أعظم متع الحياة. والثانية تقسيمها إلى:
- الصداقة النفعية: تتحدد قيمتها بمقدار ما يمكن أن يجني فيها الفرد مقابل ما يعطي (الفائدة هي الغاية) غالبا هذا النوع يرتبط بعالم السوق، وكلما كان الشخص نافعاً أكثر توسعت دائرة أصدقائه لرغبتهم بالاستنفاع منه، وهذا النوع من الصداقة يموت بانتهاء المنفعة.
- الصداقة الممتعة: تتحدد قيمتها بحسب الشعور بالأنس والمرح (المتعة هي الغاية). غالبا ما تسود بين الشباب أو في العلاقات العاطفية. هذه الصداقة تنتهي بانتهاء المتعة.
- الصداقة الفاضلة: تعني محبة الانسان الفاضل المتشبع بالقيم الأخلاقية لشبيهه في الفضيلة لذاته. هذه الصداقة التي تقوم على المحبة تتجاوز صداقة المتعة وصداقة المنفعة بالمعنى الفلسفي: أي أنها تحتفظ بالمنفعة والمتعة وتتحرر منهما في نفس الوقت. ورغم أنها الأكثر دواماً إلا أنها أيضاً الأندر. و هنا تتجلى الصياغة الأرسطية الشهيرة في تعريف الصديق: “الصديق إنسان هو أنت، إلاّ أنَّه بالشَّخص غَيرُك”
مقارنة بالخلافات التي تحدث حول مفاهيم الحقيقة أو العدالة أو الجمال، تعتبر الصداقة منطقة هادئة معزولة في البحار الفلسفية الثائرة فقد هيمنت أفكار أرسطو على المناهج الفلسفية. أما بالنسبة للفلاسفة المحدثين فتركيزهم غالبا ما يكون حول تأثير الصداقة على قيم الأخلاق والعدالة.
لا يمكننا الحديث عن الصداقة في الفلسفة دون التطرق لمقالات (ميشيل دي مونتين) الشهيرة “في الصداقة” التي نشرت عام 1580 وكانت تحاول تفسير صداقة مونتين الحميمة مع أتين دي لابويسيه، وهي كما يصفها:
صداقة لا يمكن أن تقارن بغيرها أو أن تمتد إلى ثالث. لأن كلًّا منّا يعطي نفسه بالكامل لصديقه فلا يبقى للآخرين شيء.
أما عند الشاعر (إمرسون) – أحد أبرز دعاة الفلسفة المتعالية والفردانية – فكانت الركيزتان الأساسيتان للصداقة هما الصدق والحنان. فالصديق هو من نستطيع أن نتعامل معه ببساطة دون مجاملات ونفكر أمامه بصوت عال. ويرى أن المحادثة بين الصديقين هي اكتمال الصداقة، لكن ما إن يدخل معهما فرد ثالث إلا وتختفي الكلمات التي تخرج من القلب. نعم قد يتحدّث ثلاثة أصدقاء ولكنها محادثة لا تكون بتكامل وصدق الاثنين. وهكذا تصبح كل صداقة بين اثنين يتشاركان في الآراء والاهتمامات أيضا نوع من الانفصال عن المجموع. يشاركه الرأي (سي. أس. لويس) الكاتب والباحث الإيرلندي، فيكتب:
بينما يبحث العشاق عن الخصوصية، فإن الأصدقاء يجدونها تحيط بهم كحاجز بينهم وبين الآخرين، سواء أرادو ذلك أم لا. […] وفي دائرة الأصدقاء الحقيقيين كل فرد يكون على طبيعته ببساطة. فهي علاقة جرّدت إلى العقل. وكما تحفل الإيروس بالأجساد المجردة، فإن الصداقة تحفل بالشخصيات المجردة. وبالتالي روعة اللامسوؤلية في الصداقة: فليس علي واجب لأن أكون صديقًا لأي شخص.
الكاتبة (ماريا بوبوفا) من موقع brainpicking تصوّرت مفهوماً للصداقة بدوائر متحدة المركز من الترابط البشري:
- الغرباء: يقطنون معنا العالم ولم نلتقي بهم.
- المعارف: في ثقافتنا تقترن بهم كلمة “صديق” تربطنا معهم مصالح أو ظروف مشتركة.
- أناس نعرفهم و نودّهم.
- أرواح أليفة: نألفهم بسبب تقارب القيم والمباديء. يربطنا حسن الظن والتعاطف والاحترام المتبادل. ولكننا لا نريهم إلاّ الجزء المثالي المصقول من أنفسنا دون تناقضاتنا الذاتيه و ضعفنا الشخصي.
- الصداقات الحميمة: اولئك الذين نشاركهم ضعفنا و عيوبنا بحرج ولكن دونما خوف من أن يصدرو علينا أحكاما قيمية، تربطنا بهم حميمية نفسية وعاطفية. الصديق الحقيقي هو من نستطيع تجريد أنفسنا أمامه من مثاليتها المزعومه لنكشف عن ذواتنا الناقصه الحقيقية الحساسة ونحن واثقين بأن ذلك لن يقلل من مودته لنا.
الصداقة الحميمة هي تلك التي تتغلل في عمق نفوسنا وتساهم في بناء تصورنا عن الحياة. ودائرة أصدقائنا المقربين تساهم في تأسيس هويتنا والتعبير عن شخصياتنا وتشكيل فرادتنا. علاقتنا بهم تجعلنا (نحن وهم) مختلفين عن (الآخرين) وهذا مما يشكلّ نفوسنا إلى حد بعيد. نحن عبر هؤلاء الأصدقاء نجد الفسحة والقوة لرفض تشكيل المجتمع لنا. وهكذا نستطيع تفهّم هدف (فوكو):
هذه الأيام ليس الهدف أن نكتشفَ أنفسنا، بل أن نرفضَ ماصرنا إليه. أن نعزز أشكالاً جديدة من الذاتية عبرَ التمرد على ما فُرض علينا لعدة قرون.
و الصداقة كفيلة بتوفير السياق لمثل هذا التمرد. فعلاقة مع صديق جديد هي وسيلة لمقاربة الذات، الآخرين، و كذلك الحياة. كما أن المناقشات مع الأصدقاء هي مساحة للتعبير بصراحة عن أفكارنا وطرقا مختلفة للحد من عشوائيتنا دون خجل.
ما يفرّق الصداقة عن علاقة عابرة، هو أنه في الصداقة لا يمكن أن نحدد بوضوح لماذا نحبّ الصديق لأننا لا نستطع فصل ما يعجبنا فيه عن ذاته. و يرى مونتين أن أي محاولة لشرح أسباب محبتنا لصديق بالاستشهاد بفضائله مآلها الفشل:
لا يكمن الجواب في ميزات صديقي، وإنما في العلاقة بينها وبيني.
أما (كانط) فقال شيئا مشابها عن الأشياء الجميلة: “فنحن لا نستطيع أن نوضّح تماما لم نرى شيئًا ما جميلاً. هناك دائما ما لا نستطع وصفه والتعبير عنه بالكلمات. و كذلك الصداقة لا يمكن التفسير بأسباب واضحة لم نحن أصدقاء مع أصدقائنا. فنحن نحبهم لأنهم هم و أيضاً – كون الذات الإنسانية غير ناجزة – لما نأمل أن نكونه بسبب علاقتنا بهم”. وهكذا كانت إجابة (مونتين):
إذا ألححت علي كي أقول لم أحب صديقي، فلا يمكنني أن أزيد على: لأنه هو و لأني أنا.
و بما أننا لا نزال مع مسيو مونتين، فجدير بالذكر أن الصفات التي نحبها أو نبغضها في صديق ما ليست فقط “لأنه هو” ولكنها أيضا ترتبط بما أنا عليه “لأني أنا” و بالتالي عندما يتخلى عني صديق فإنه لا يرفضني فقط فأفقد معه جزءًا من ذاتي، ولكنه أيضاً يرفض ما أصبح عليه “هو” عبر علاقتنا معاً.
أمّا إذا انتقلنا إلى الشرق فإننا نجد تباينا في آراء حكمائنا العرب في أمر الصداقة والصديق. فمنهم من استشكل وجود الصديق وعدّه “اسم لا حقيقة له” مثل الغول والعنقاء. ومن ثم اعتبر أن أغلب من يعدّون أصدقاء – إن هو حقق أمرهم – وجد أنهم مخاليط ومعارف وما أدركوا منازل الأصدقاء. فقد قيل لأحدهم: ألك صديق؟ فقال: لا، ولكن أليف. وقال (جعفر بن يحيى) لبعض نُدمائه: كم لك من صديق؟ قال: صديقان. فقال: إنك لمثرٍ من الأصدقاء. وكتب رجلٌ إلى صديقٍ له:
أما بعد، فإن كان إخوان الثقة كثيراً، فأنت أوّلُهم، وإن كانوا قليلاً فأنتَ أوثقهم، وإن كانوا واحداً فأنت هُو.
كما تباين الحكماء في ماهيّة الصديق: أهو المؤالف لك أم المخالف؟ أهو تؤام عقلك أم بديله؟ وأغلبهم كان على القول بمبدأ “المؤالفة”. فمثّل الصديق كالرقعة في الثوب. وهذا ما نجده في قول (جعفر الخلدي): “مجالسة الأضداد ذوبان الروح، ومجالسة الأشكال تلقيح العقول”. وقيل كل صاحب يقال له “قم” فيقول “الى أين؟” فليس بصاحب. وسئل حكيم من صديقك؟ فقال:
الذي إذا صرتُ إليه في حاجةٍ وجدته أشدّ مسارعةً إلى قضائها منّي إلى طلبها منه.
أما من المحدثين، فوصف (زكي مبارك) الصديق الحق بقوله:
هو الذي يستطيع أن يغزو قلبك بأشعة روحانية، توحي إليك أنه أنيسك في النعماء وحليفك في الضراء، وأن وداده الصحيح هو القبس الذي تستضيء به عند اعتكار الظلمات.
وقال (الرافعي):
الصديق هو الذي إذا حضر رأيت كيف تظهر لك نفسك لتتأمل فيها، وإذا غاب أحسست أن جزءاً منك ليس فيك.
أما (جبران) بشاعريته الشفافة فيصف الصديق في (النبي) بقوله:
إن صديقك هو كفاية حاجتك. هو مائدتك و موقدك. لأنك تأتي إليه جائعاً، وتسعى وراءه مستدفئا. ولا يكن لكم في الصَّداقة من غاية ترجونها غير أن تزيدوا في عمق نفوسكم.
ومن أجمل ما قيل في الشوق إلى الصديق قول (ابن ثوابة):
“لبثتُ بعدكَ بقلبٍ يودُّ لو كان عيناً فيراكَ، وعينٍ تودُّ لو كانت قلباً فلا تخلو من ذكراك”
وأما في حاجة الإنسان إلى الحفاظ على الصداقة فتقول الرقيقة مي زيادة:
مهما تنكَّر لنا معنى الصداقة الصافي، ومهما غدر بنا الغادرون فعلمونا الحذر، إلا أننا لا نستطيع إنكار احتياجنا العميق إلى الصديق؛ لأن لدينا مرغمين كمية من المودة والوفاء والتسامح والغفران والتضحية لا بد من تصريفها وإنفاقها لتزيد بالعطاء غنًى، وعند من نصرفها وعلى من ننفقها إلا على الأشخاص الذين نراهم قمينين بأنبل ما عندنا من فكر، وأصدق ما لدينا من عاطفة؟ أيها الذين ربطت الحياة بينهم بروابط المودة والإخاء والتآلف الفكري والنبل الخلقي، حافظوا على صداقتكم تلك وقدِّروها قدرها! فالصداقة معين على الآلام ومثار للمسرات. وحسبكم أنتم أنكم بإيمانكم بالصداقة توجدون الصداقة، وبممارستكم أساليب الصداقة إنما تكوِّنون خميرة الصفاء والصلاح والوفاء.
اعتقد بعض القدماء أن الصداقة تربط الكون كله معا. ولكن نحن الأكثر تواضعا، نعتقد أن الصداقة لا تفعل أكثر من أن تربط بعض الأفراد. اولئك الذين يستطيعون أن يقولو لبعضهم: “أحبك لأنك أنت ولأني أنا”.
مصادر أخرى:
- التوحيدي، أبو حيان: الصداقة والصديق
- الشيخ، محمد: كتاب الحكمة العربية: دليل التراث العربي إلى العالمية