جحا، بين بَله الطرفة و حنكة المتصوفة
يعد الملّا (نصر الدين) أو (جحا) شخصية كلاسيكية من إبداع الدراويش بغية تجميدهم في لحظة واحدة مواقف بحاجة إلى حالات ذهنية معتمة معينة إلى الضوء، وتشكل حكايات (جحا) إحدى أغرب المآثر في تاريخ الميتافزيقيا، تمر معظمها على أنها “نُكت” ولكنها غير ذلك منطوية على العديد من مستويات العمق و الحكمة تمضي بوعي المتصوف خطوة أبعد على طريق الإدراك .
يجهل الناس إلى أين يتجهون طلبًا للإستنارة، ونتيجة لذلك فلا غرابة هناك إذا ارتبطوا بأي معتقد أو انغمسوا في كافة أنواع النظريات، و رسخ في يقينهم أنهم يملكون القدرة على التمييز بين الصدق و الزور، و(جحا) عَلم هذا الدرس بطرق عدة منها:
أحد الجيران وجد (جحا) راكعًا على ركبتيه يبحث عن شيء ما
– ماذا ضاع منك يا (ملا)؟
رد (جحا):
– مفتاحي.
بعد عدة دقائق من البحث، سأله الجار:
– أين سقط منك؟
– في البيت.
– إذًا فلماذا – بحق السماء – لا تبحث عنه هناك؟
– النور هنا أكثر!
هذه هي إحدى أشهر حكاياته ويستخدمها كثير من الصوفيين في تعليقهم على أولئك الذين يسعون وراء مصادر غريبة بحثًا عن الإستنارة.
يعد الحشد التدريجي للوعي إحدى خصائص المنهج الصوفي الذي ينتهجه (جحا) فتعد ومضة التنوير الحدسية التي تأتي بها حكاياته ماهي بصفة جزئية إلا استنارة صغرى في حد ذاتها و ليست تجربة ذهنية، لكنها أيضًا حجر عبور نحو إعادة بناء إدراك باطني في ذهن مأسور أخضعته دون رحمة لتشريط أنساق التدريب التي تفرضها الحياة المادية و مع ذلك فما زال طوع المرء أن يتلقى نكت (جحا) بعد فصلها من عباراتها التكنيكية عن قيمتها الفكاهية و في هذه الحالات قد تفقد كثيرًا من تأثيرها، مثالًا على ذلك :
أخذ (جحا) ذات يوم حملًا مع الملح إلى السوق، فعبر حماره خلال جدول من الماء فذاب الملح و عند وصول الجحش للضفة الأخرى استبد به المرح فالحِمل خف عن ظهره، لكن الغضب ملك فؤاد (جحا) وفي اليوم التالي ملأ ” جحا ” ظهر حماره بالصوف ، فكاد أن يغرق بعدما تشبع الصوف بالماء، و هنا صاح (جحا) بلذة إنتصار:
– هيه! هذا درس لك، عندما تظن أنك سوف تكسب شيئًا في كل مرة تتخذ فيها طريق الماء.
في الحكاية الأصلية نجد أن مصطلحين تكنيكيين تم إستخدامهما: الملح و الصوف
فكلمة “ملح” تعتبر مرادفة لـ“الصالح و الحكمة” و الحمار هنا يرمز للانسان وخلال التخلص من الصالح العام يشعر المرء بالارتياح بعد ان انزاح ماكان يثقل كاهله، لكن ذلك يؤدي لفقدان غذائه فـ(جحا) عجز عن بيع أي ملح وشراء العلف، أما كلمة “صوف” تنطوي بطبيعة الحال على كلمة “صوفي” وفي الرحلة الثانية يجد الحمار كاهله ينوء تحت عبء أثقل، فهكذا يريد المعلم (جحا) وقد زاد الوزن على امتداد الطريق للسوق فكانت النتيجة النهائية أحسن بعد أن باع (جحا) الصوف مبلل وصار أثقل و قبض ثمن أعلى مما كان ليأتيه من بيع الصوف جاف.
تكشف إحدى حكايات (جحا) أيضًا عن كيفية توصل الصوفي للنتائج الصحيحة خلال آلية خصوصية “منهج مغلوط، بالنسبة إلى غير المتأهلين”، وهو الأمر الذي يفسر كثيرًا مما يبدو غرائب من جانب الصوفيين:
مثل رجلان أمام (جحا) عندما كان يعمل قاضيًا. و قال أحدهما:
– هذا الرجل عض أذني، و أطلب منه تعويضًا مناسبًا.
رد الآخر:
– هو الذي قضمها بنفسه!
قام (جحا) بتأجيل القضية و انسحب إلى غرفة المداولة فقضى نصف ساعة يحاول قضم أذنه بنفسه ولم ينجح إلا في السقوط على الأرض مرة تلو سابقتها مما أدى لجرح جبهته، فعاد لقاعة المحكمة و أصدر حكمه:
– افحصوا الرجل الذي قُضمت أذنه، فإذا وجدتم أن جبهته مجروحة أشد من جروحي، يكون هو من فعلها بنفسه، وبذلك تكون القضية مرفوضة وإلا يكون الرجل الآخر هو من فعلها و عندئذ يحصل المعضوض على تعويض قدره ثلاث قطع من الفضة.
توصل هنا (جحا) لقرار صحيح بوسائل غير منطقية، فنجده تبنى دور الأحمق “درب الملامة عند الصوفي” ونجده مصورًا بشكل متطرف طريقة تفكير البشري العادي.
نفت الصوفية الافتراض الذي يقول بأن مجرد كون المرء لا يزال على قيد البقاء فإنه ذلك يُمكنه من الإدراك، فقد يكون المرء حي من الناحية الإكلينيكية و لكنه ميت من الناحية الإدراكية، ولن يُمكّنه المنطق و لا الفلسفة من بلوغ الإدراك، كما تصوره لنا القصة الآتية :
كان (جحا) يفكر بصوت عالِ:
– كيف يتأتى لي أن أعرف ما إذا كنت حيًا أم ميتًا؟
فقالت له زوجته:
– لا تكن مغفلًا ، لو كنت ميتًا لكانت أطرافك باردة.
و بعد ذلك بقليل تصادف أن كان (جحا) يسير في غابة بمنتصف الشتاء، فتذكر أن يديه و قدميه باردة و فكّر:
– أنا الآن بكل تأكيد ميّت، فصار علي أن أتوقف عن العمل لأن الجثث لا تعمل.
و لما لم يكن في وسع الجثث أن تسير فلقد توقف عن المشي و تمدد على العشب، و سرعان ما ظهرت ذئاب شرعت بمهاجمة حماره الذي كان قد قيده في إحدى الأشجار، و هنا قال (جحا) من وضعه المستلقي:
– نعم، واصلوا ما أنتم فيه منتهزين فرصة موت صاحبه! وآه لو كنت على قيد الحياة، لم أكن لأسمح لكم بأخذ راحتكم على هذا النحو مع حماري!
إذا بدت هذه نكتة و حسب لشخص ما ، فإن هذا الشخص يكشف عن حاجته إلى المزيد من العمل الذاتي ، يصوره (جحا) كاريكاتوريًا في الحوار الآتي :
سأل رجل غبي (جحا):
– ماذا يفعلون بالقمر عندما يشيخ؟
جاء الجواب مناسبًا:
– إنهم يقسِّمون كل قمر إلى أربعين نجمة!
فالأشخاص الذين يسعون لتحقيق الوصول الباطني يتوقعون ذلك بشروطهم هم و من هنا يستبعدون أنفسهم من الأمر قبل بدأه.
لما كانت الصوفية هي التناغم مع الحقيقة الحقيقية أي غير المزيفة، فليس في وسع أحد أن يجعلها تشبه شبهًا كبيرًا ما نأخذ على أنه حقيقة، ولكنه في حقيقة الأمر ليس سوى حكم أكثر بدائية و قصير المدى، وعلى سبيل المثال ترانا نميل إلى النظر إلى الأحداث من منظور أحادي الجانب، كما نفترض – دون أي مبرر – إن الأحداث تقع كما لو كانت تقع في فراغ.
ولكن الحقيقة الواقعة أن كل الاحداث ترتبط بكل الأحداث الأخرى ولا يحدث إلا عندما نكون على استعداد لمعايشة علاقاتنا المتبادلة مع كل مجمل منظومة الحياة، أن يكون في وسعنا أن نقدر التجربة الباطنية حق قدرها، وإذا ما نظرت إلى أي تصرف يصدر عنك وعن أي شخص آخر فلا سوف تكتشف أن هناك واحدًا من دوافع عديدة ممكن تقف وراءه، وأنه من المستحيل أن يكون عملًا منعزلًا ؛ إذ يترتب عليه عواقب معينة، كثير منها لم تكن لتتوقعه بحال من الأحوال، ولم يكن بالتأكيد ف طوعك ان تضعه ضمن خططك.
وتؤكد نكتة أخرى تروً عن (جحا) هذه الدائرية الأساسية إلى الحقيقة و التفاعلات غير المنظورة بصفة عامة التي تحدث:
ذات يوم كان (جحا) يمشي في طريق صحراوي مهجور، وبينما كان الليل يرخى سدوله لمح طابورًا من الفرسان قادمًا نحوه، وبدأ خياله في العمل فخاف أن يكونوا قادمين إلى سرقته أو تجنيد في السلك العسكري واستبد به الخوف حتى قفز على سور قريب وسرعان ما وجد نفسه في جبانة، اما المسافرون الآخرون اللذين كانوا خاليي البال من مثل تلك الأفكار التي طرأت على ذهن (جحا) فاستبد بهم حب الاستطلاع وجدّوا في أثره.
وعندما عثروا عليه ممدًا على الأرض بلا حرام، سأله أحدهم:
– هل لنا أن نساعدك؟ من الذي جاء بك إلى هنا؟
رد (جحا) بعد أن أدرك غلطته :
– الأمر أعقد مما تفترضون فأنا هنا بسبببكم و أنتم هنا بسببي!
بينما كان (جحا) يرمم سطح بيته ذات يوم ناداه شخص ما طالبًا منه أن ينزل إليه في عرض الشارع ، فما كان من (جحا) إلا أن استجاب، و سأله عما يريد فقال:
– بعض النقود.
– لماذا لم تقل لي ذلك وأنا على السطح؟
– إنني أخجل أن أشحذ.
– اصعد معي إلى السطح.
و عندما بلغا السطح انخرط (جحا) من فوره في تركيب البلاط مرة أخرى، كح الرجل في يده فما كان (جحا) إلا أن قال، دون أن يرفع عينيه إليه:
– ليس عندي نقود أسلّفها لك.
– كان بوسعك أن تقول لي ذلك دون أن تجعلني اصعد معك إلى هنا.
– إذن، كيف كنت ستعوضني عن إنزالك لي من على السطح إلى الشارع؟
كثيرة كثرة فائقة هي الأشياء التي تتضح للصوفي في نفس اللحظة مما لا يستطيع الشخص المتوسط إدراكها، فهي أعمال تعتمد على القوى فوق الحسية و هذه الأعمال بالنسبة للصوفي ليست أكثر إعجاز من أي أعمال تعتمد على الحواس العادية بالنسبة إلى العوام، أما كيف تعمل على وجه التحديد فليس بوسعنا أن نصفه، و لكن نستطيع أن نسوق قياسًا متناظرًا إلى هذا الحد أو ذاك.