مارسيل بروست عن الحب وكيف يعمينا العقل عن بصيرة القلب
«لكن ذكائنا، مهما كان حادًا، لا يمكنه إدراك العناصر التي تشكله والتي لا يخالجه بشأنها أي شك»
«يعرف المرء الطبيعة والروح والحب من خلال القلب لا من خلال العقل»، هذا ما كتبه (فيودور دوستويفسكي) ذو الستة عشر عامًا في رسالة جميلة إلى أخيه. على الصعيد الأولي، ندرك أن ذلك صحيح، ومع ذلك فإننا نسمح لأنفسنا بطريقة ما بنسيانه مع تقدمنا في السن واعتمادنا على العقل باعتباره طريقتنا الأسمى لاكتساب المعرفة. يبدو أننا لا نتذكر قلوبنا إلا في لحظات المعاناة؛ تلك الشدة العاطفية البالغة والتي يتعذر علينا كبحها لدرجة أنها تجردنا من مبرراتنا وتودعنا، عراةً وبلا حراسة، في مهد ذواتنا. إن بصيرة القلب التي نجنيها في حالة الضعف تلك مختلفة تمامًا عن البصيرة التي نجنيها من خلال التفكير العقلاني المدروس.
ربما يكون هذا هو ما قصده (ريلكه) عندما أشاد بالحزن بوصفه أداتنا الأسمى للمعرفة الذاتية وما تطرقت إليه (سيمون فايل)، العبقرية التي لم تحظى بالتقدير الكافي، في تأملها في كيفية الاستفادة من معاناتنا. ومع ذلك، فإن ما يجعل المعاناة العاطفية أكثر إيلامًا هو أننا نقاومها بعناد شديد لأننا نعتبرها، على مستوى ما، معادية للعقل.
في السجينة والشاردة، المجلد الخامس من رائعته (البحث عن الزمن المفقود)، يسلط (مارسيل بروست) [١٩٨١م-١٩٢٢م] ضوءًا ثاقبًا على هذا التناقض حول كيفية أن العقل، خلال بحثه المنطقي عن الحقائق، يعمينا عن أكبر الحقائق لواقعنا العاطفي.
بعد فترة وجيزة من انتهاءه من تحليل منطقي دقيق لمشاعره تجاه شريكته الرومانسية، (ألبرتين)، والذي خلص فيه إلى أنه لم يعد يحبها، يتلقى البطل أخبار وفاتها؛ وإذا به فجأة صريع حزن جائر يستحال كبحه لدرجة أنه كشف له حقيقة مشاعره -تلك الحقيقة التي رفضها عقله ولكن قلبه شفرها بصورة أعمق- وهي أنه, في نهاية الأمر, يحب (ألبرتين) حبًا جمًا.
في إحدى الفقرات الوجيهة والنيّرة، ينقل لنا (بروست) من خلال بطله -الذي سماه على اسمه- نظرة عامة حول كيفية أن العقل يعمينا عن بصيرة القلب وكيف أن الألم، قبل كل شيء، يبدد دفاعاتنا العقلية ويضعنا في اتصال صريح ومباشر مع الحقيقة العاطفية لذواتنا:
ظننت أنني لم أترك أي شيء دون حساب،
وكمحلل صارم، ظننت أنني أعرف ما يجول في قلبي حق المعرفة.
لكن ذكائنا، مهما كان حادًا، لا يمكنه إدراك العناصر التي تشكله والتي لا يخالجه بشأنها أي شك طالما أن هناك ظاهرة يمكنها تحويل هذه العناصر من حالة التبخر التي غالبًا ما تكون فيها وعزلها دون أن تخضعها لأولى مراحل التجمد.
أخطأت عندما ظننت أن بإمكاني أن أرى ما يجول في قلبي. لكن هذه المعرفة التي لم تتحها لي أدهى الإدراكات العقلية، قد تجلت لي الآن واضحة وساطعة وغريبة، كذرة ملح متجمدة، بسبب استجابة مباغتة للألم.
[المصدر]