الاختلاق والذاكرة عند إدوارد سعيد
إدوارد سعيد (1 نوفمبر 1935- 25 سبتمبر 2003) مفكر وناقد فلسطيني أمريكي. اشتهر بأعماله في النقد الأدبي وبدفاعه المستميت عن القضية الفلسطينية في الأوساط الغربية. في هذه الفقرات -التي ترجمها رشاد عبد القادر- يتحدث إدوارد سعيد عن العلاقة الوثيقة بين الذاكرة والهوية القومية وعلاقة كل هذا القضية الفلسطينية. حيث يستفتح بالقول:
تطال الذاكرة، وما يمثلها بأهمية بالغة، مسألة الهوية والقوة والسلطة، فدراسة التاريخ ـ إذ تشكل أساس الذاكرة- هي أبعد ما تكون عن الدراسة الحيادية في الوقائع والحقائق الأساسية؛ بل إنها، وإلى حدّ كبير، مسعى قومي يقوم على التسليم بضرورة أن تبني فهم المطلّع وولاءه المَرُوم للوطن، والإرث، والمعتقد. وبعبارة أخرى، إن اختلاق الإرث هو ممارسة كثيراً ما استغلتها السلطات بوصفها أداة حكم في المجتمعات ذات التجمعات البشرية، فهو منهج لاستخدام الذاكرة الجمعية بشكل انتقائي من خلال التلاعب بقطع معينة من الماضي القومي، وذلك بطمس بعضها وإبراز بعضها الآخر بأسلوب توظيفي بكل ما في الكلمة من معنى. ومن هنا، ليست الذاكرة بالضرورة ذاكرة أصيلة، بل هي على الأصح، ذاكرة نافعة.
فالتفاعل بين الجغرافيا والذاكرة والاختلاق من حيث أنه كلما كان ثمّة استعادة ذكريات يجب أن يكون هناك اختلاق، هو تناول وثيق الصلة بصفة خاصة مع مسألة في القرن العشرين؛ وهي قضية فلسطين، التي تَضْرِبُ مثلاً على صراع غني وشديد الخصوبة أقلّه بين ذاكرتين، ضربين من الاختلاق التاريخي، وضربين من المخيلة التاريخية. وما أحاول أن أبرهن عليه أنه يمكننا أن نتخطى إلى ما وراء عناوين وسائل الإعلام وتكرار تفسيراتها المختزلة للصراع في الشرق الأوسط، وأن نتبين فيها صراعاً أكثر اتقاناً مما يتم تناوله عادة. وبفهم التمازج المكاني بين الجغرافيا عموماً ومشهدية المكان بصفة خاصة وبين ذاكرة تاريخية وشكل اختلاق لافت يمكننا أن نبدأ بإدراك كنه استمرار الصراع وصعوبة حلّه؛ صعوبة أكثر تعقيداً وضخامة عما قد تتصوره عملية السلام الجارية، هذا إذا تجاوزنا عن ذكر الحل.
وفي إسقاطه لهذه العلاقة على الواقع مقارنا الهوية اليهودية بالهوية الفلسطينية يواصل الحديث:
فمما لاشك فيه أنه من الأهمية بمكان الحيلولة دون أن ينكر سفاحو الذاكرة الهولوكوست أو التقليل من شأنه؛ ولكن من الأهمية بمكان أيضاً ألاّ ننسى توضيح الصلة، الراسخة تماماً في الوعي اليهودي المعاصر، بين الهولوكوست وتأسيس إسرائيل بوصفها جنة اليهود. ومما لمْ يُصرَّح به عملياً البتة أن هذه الصلة تعني أيضاً تجريد الفلسطينيين من بيوتهم ومزارعهم. ولم يتلق الفلسطينون، ولو حتى اعترافاً رسمياً طفيفاً بالظلم الشامل الذي تعرضوا له وما يذهلني هو رفض السرد الإسرائيلي الرسمي أن يدخل في حسابه اشتراك الدولة ومسؤوليتها عن تجريد الفلسطينيين من ملكيتهم. ولعل أعظم حرب شنها الفلسطينيون بوصفهم شعباً هي حرب بخصوص حقهم الشرعي بحضور له ذاكرة، ومع ذلك الحضور، حقهم في الامتلاك وحقهم في استرداد واقع تاريخي جمعي، أقلّه مّذْ أنْ بدأت الحركة الصهيونية في انتهاك الأرض.
وبحزن يشرح مأساة الفلسطيني مع الذاكرة
ولكن قدر التاريخ الفلسطيني هو أن يكون تاريخاً محزناً، ليس لأنه لم يُظفر بالاستقلال فقط، بل لأنه لم يكن ثمّة إدراك جمعي لأهمية بناء تاريخ جمعي بوصفه جزءاً في محاولة نيل الاستقلال. فلكي يصبح أمة بالمعنى الرسمي للكلمة، ينبغي على الشعب أن يجعل من نفسه أكثر من مجرد مجموعة من القبائل أو المنظمات السياسية من الصنف الذي ابتدعه وعززه الفلسطينيون منذ حرب 1967. ومالم ندركه البتة هو قوة السرد التاريخي في حشد الناس حول هدف مشترك، ففي حالة إسرائيل، كانت فكرة السرد الأساسية أن ضالة الصهيونية المنشودة هي استرجاع شعب وإعادة تأسيسه وعودته وإعادة صلاته مع وطن أصلي. وبفعل قوة وجاذبية السرد والفكرة الصهيونيين (الذين اعتمدا على قراءات خصوصية للتوراة)، وبفعل عدم مقدرة الفلسطينيين الجمعية في إنتاج قصة سردية مقنعة لها بداية ووسط ونهايةوكنا على الدوام مشوشين، وكان هَمُّ قادتنا صون سلطتهم، وامتنع معظم مفكرونا عن إناطة أنفسهم كمجموعة بهدف مشترك، والحال أنه كثيراً ما غيّرنا أهدافنا)، ظل الفلسطينيون مشتتين وضحايا عاجزين سياساً أمام صهيونية لم تزل تستولي على الأرض والتاريخ.
* لقراءة المقال كاملا بالانجليزية