المعرفة والفكر الفلسفيترجمات حصرية

فلاسفة السّعادة؛ حياة وأعمال علماء المنفعة العظماء

"كلّ شخص يحتاج إلى أعمال وحياة وأقوال، لجني مساهمات عظماء الفلاسفة، الذين لا يمكن اختزالهم في أعمالهم وحدها"

يُعرف (بارت شولتز) اليوم، من خلال أهمّية أعماله السّابقة(1)، بأنّه أحد أكبر المتخصّصين حول فكر (هنري سيدجويك) [١٩٣٩م-١٩٠٠م]. ولكنّه، مع هذا الكتاب الجديد -تحت عنوان: (فلاسفة السّعادة حياة وأعمال علماء المنفعة العظماء) الصّادر سنة ٢٠١٧م، عن مطبعة برينستون الجامعيّة-، سيقدّم لنا من خلاله فحصا رائعا لمفهوم النفعية الكلاسيكية الذي جدّد فهم هذا التقليد الفلسفي عبر إلقاء الضّوء على المؤلَّفات من خلال حياة مؤلِّفيها. 

إذ يهدف كتاب (بارت شولتز) بشكل أساسيّ، إلى تقديم المعنى الفلسفيّ للنّفعيّة والدّفاع عنه. مستندًا في قصده على ملاحظة مفادها: أنّ فلاسفة الحداثة النّفعيون [من (وليام غودوين) إلى (هنري سيدجويك)]، قد رأوا رسالتهم مشوّهة إلى حدّ كبير، ومحفوفة بالتّحيّزات والأحكام المسبقة والرّسوم الكاريكاتوريّة، التي جعلت فلاسفة نفعيّون وأيديولوجيون يخدمون المديرين الرأسماليّين، من (تشارلز ديكنز)(2) حتّى يومنا هذا.

بدءًا من مقاربة لتاريخ الفلسفة(3)، التي ترفض اختزالها في المذاهب فقط، يقترح (بارت شولتز] إعادة قراءة وفهم النّفعيّة الكلاسيكيّة مرّة أخرى، بواسطة إحياء فكرة مضمونها: إنّ الفلسفة وتعاليمها في مقدّمة كلّ من أعمال الفلاسفة وحياتهم على السّواء. كما يوضّح بنفسه قائلًا: 

يعكس هذا الكتاب، الاعتقاد بأنّ كلّ شخص يحتاج إلى أعمال وحياة وأقوال، لجني مساهمات عظماء الفلاسفة، الذين لا يمكن اختزالهم في أعمالهم وحدها(4).

وفي السّياق نفسه، تعتمد طريقة (شولتز) على مفهوم مفتوح للفلسفة؛ مما يعني بحسبه، أنّنا لكي نفهم الفلسفة، يجب في الوقت عينه، أن نفهم العمل الفلسفيّ مقترنًا بحياة الإنسان الذي أنتجه. وباتّباع هذه الفكرة، فإنّ الدّورة التي اقترحها (بارت شولتز)، تبني جسرًا بين السّيرة الفكريّة، وصورة فلاسفة المنفعة ومساراتهم الفكريّة والتّقدّم في عملهم الفلسفيّ.

بينما، بالنسبة لـ(شولتز)، وفي وسط هذا الحوار، تُعكس التّأثيرات بين الحياة والعمل، وكذلك التّوتّرات والتّناقضات بين الفيلسوف وفكره، الذي لن يحدّ بأيّ حال من المعنى الفلسفيّ للنّفعيّة. 

لذا، عند القيام بذلك، يبدو لنا أنّ الاهتمام الحقيقيّ للكتاب، هو أنّه قد نجح في إلقاء ضوء جديد على كلمة “المنفعة”، التي إذا لم تتطابق تمامًا مع المعنى الذي تحدّده النّظريّة بشكل أو بآخر، فإنّها تواجه أخطاء في الدّراسة والتّناول، كالتي ارتكبها (ديوجين لايرس)(5) في تصوّره للفلاسفة القدماء، وعلى عكس هذا الأخير سنجد المعنى المفعم بالتّصور الجديد يعطي جسدًا وحياة للعمل، وعلى نطاق أوسع، للمشروع الفلسفيّ ذي الأجل الطّويل الذي حمله. 

في الواقع، كما يشير المؤِّلف، فإنّ فحص حياة فلاسفة النّفعيّة الكلاسيكيّة، يفاجئ القارئ بعدد من الأشياء؛ سواء أدرك هؤلاء الفلاسفة، أو فشلوا في تنفيذ فلسفتهم داخل ممارسة حياتهم اليوميّة. مع ذلك، يوجد إرث هنا لا يمكن انتزاعه بالكامل من التّعليم الفلسفيّ للنّفعيّة. فنجد أوّلًا وقبل كلّ شيء، هذه المعارضة المشتركة ضدّ المعاناة التّعسفيّة غير الضّروريّة، وهي نتاج عنف الاعتبار الأخلاقيّ غير المتكافئ للأفراد. ولكن، بالنّسبة لـ(بارت شولتز)، يوجد تعليم النّفعيّة بشكل أساسيّ في عدّة أسطر قويّة، لا يمكن اختزالها في كلمة “الإصلاح”، التي أصبحت على مدار محاور العمل ترشد فهم النّفعيّة الكلاسيكيّة، ومغامراتها الفلسفيّة والتّاريخيّة والسّيرة الذّاتيّة.

 ووفقًا لـ(شولتز)، يمكننا هنا وضع قائمة “غير شاملة” بالمحاور التي بدت لنا أنّها الأكثر بيانًا، مثل: الالتزام يؤدي أحيانًا إلى النّشاط لصالح التّعليم(6) من أجل فتح المؤسّسات التّعليميّة وإعادة تأسيسها، الاهتمام بوضع المرأة وبحرّيّتها، الاهتمام الجادّ بالتّجارب الدّينيّة والرّوحيّة حتّى انتقاد ثوابتها، وأخيرًا الاهتمام بالأسئلة المتعلّقة بالسّياسة الدّوليّة. 

بيد أنّ (بارت شولتز) يدير تاريخ النّفعية الكلاسيكيّة هذا ببراعة، بفضل سعة الاطّلاع الكبيرة، والإتقان الهائل للمجموعة النّفعيّة وتفاصيل حياة الفلاسفة الذين درس فكرهم. ومع ذلك، فمن المؤسف أنّ هذه القراءة الفلسفيّة للنّفعيّة الكلاسيكيّة ربّما تضمّنت خيارات معيّنة. إنّها تمرّ، أوّلًا وقبل كلّ شيء، عبر إقصاء النّفعيّين الآخرين [ربّما لأنّهم أقلّ شهرة من أولئك المختارين] مثل (ويليام بالي) و(ويليام طومسون) و(جيمس ميل) الذين في أحسن الأحوال يتوفّرون فقط على استكشافات قصيرة جدًّا.

 فإذا كانت هذه النّفعيّة المغمورة بالتّأكيد، أقلّ تميّزًا من الفلسفة النّفعيّة لـ(ويليام غودوين) و(جيرمي بينثام) و(جون ستيوارت ميل) و(هنري سيدجويك)، مع أنّهم لعبوا دورًا كبيرًا في تاريخها. فإنّ النهج المعتمد أيضًا، من حيث المبدأ، استبعد فحص أبناء أريادن الآخرين الذين تطور من خلالهم الفكر النّفعيّ، مثل “مراجعة ويستمنستر”، ودخوله بمفهوم النّفعيّة في الحياة السّياسيّة الإنجليزيّة في مواجهة المعارضة إبّان أوائل القرن التّاسع عشر بإنجلترا. 

أخيرًا يحتفظ المؤلِّف بمعاملة خاصّة لـ(هنري سيدجويك)، الذي شغل ثلث الكتاب تقريبًا، وربّما أدّى هذا الاهتمام إلى عدم توازن العمل قليلًا. إذ يكشف (بارت شولتز) عن “مطابخ” –إن صحّ التّعبير- “الأساليب الأخلاقيّة”، وعلى وجه الخصوص الدّور الذي ربّما لعبه (سيدجويك) في دراسة التّجارب الرّوحيّة والدّينيّة مثل (علم النّفس المترابط]. فتسويغ (سيدجويك) لا يتردّد في مواجهة آراء فلاسفة المنفعة المعاصرين (بيتر سينجر)، (رتشارد كريسب)، (ديريك بارفيت) حول موضوع فلسفته الأخلاقيّة للتّعمق في أصالتها وخصوصيّة فكرها. 

ومع ذلك، يمكننا أن نراهن أنّه من خلال هذه الرّحلة داخل تلك الأعمال، وبصحبة مؤلِّفي النّفعيّة الكلاسيكيّة، سيجد القارئ بالتّأكيد أسبابًا جديدة لقراءة هذه المجموعة الفلسفيّة والتّشكيك فيها من جديد.


الإحالات والهوامش:

(1) ينظر كتاب: (هنري سيدجويك عين الكون: سيرة ذاتية فكرية)، (بارت شولتز)، كامبريدج، مطبعة جامعة كامبريدج، ٢٠٠٤م. وينظر كذلك: “النفعية والإمبراطورية”، أد. بارت شولتز وجورجيوس فاروكساكيس، ليكسينغتون بوكس​​، ٢٠٠٥م.

(2) (أوقات صعبة)، (تشارلز ديكنز)، كول، (فوليو)، باريس، غاليمارد، ١٩٨٥م.

(3) يستشهد (بارت شولتز) هنا كمثال بكتاب (جيمس ميلر): (فحص الحياة: من سقراط إلى نيتشه)، بيكادور، تورنتو، ٢٠١٢م.

(4) (فلاسفة السعادة، حياة وأعمال علماء المنفعة العظماء)، (بارت شولتز)، برينستون وأكسفورد، مطبعة جامعة برينستون، ٢٠١٧م، ص: 5.

(5) (حياة ومذاهب الفلاسفة اللامعين)، (ديوجين لارس)، كول، “الحقيبة”، باريس، كتاب الجيل، ١٩٩٩م.

(6) يقدم (بارت شولتز) هذه المعركة التي خلّدها كلّ واحد من النّفعيين كأحد الإنجازات المركزيّة للكتاب: “وبالتّالي، يجب أن يكون واضحًا عند هذه النّقطة أنّ (جودوين وبنتام) و(ميل) كانوا جميعًا مهتمّين بتثقيف النّاس من خلال تنمية نمو الشّخصيّة بطرق تؤدّي إلى السّعادة، بالنّسبة لهم وللآخرين أيضًا، وأنّهم يفسّرون “الحياة السّعيدة” بمصطلحات المتعة، والتي غالبًا ما كانت مختلطة بمصطلحات الكمال، لا سيما عند (غودوين) و(ميل). ينظر كتاب: (فلاسفة السّعادة، حياة وأعمال علماء المنفعة العظماء)، (بارت شولتز)، مرجع سابق، ص: ٢٦٣.


بقلم: بنجامين بورسيه.

ترجمة: د. محمد كزو

مراجعة وتحرير: أحمد بادغيش

زر الذهاب إلى الأعلى