الشجاعة في أن تكون نفسك: كامينجز عن الفن و الحياة
كتب الفيلسوف الألماني (نيتشة) عندما كان عمره ثلاثين سنة ”لا يستطيع أحد سواك أن يبني ذلك الجسر الذي تعبر فوقه – أنت ولا أحد غيرك – نهر الحياة“. و يقول الشاعر الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1995 (شيموس هيني) وهو يوجه المشورة إلى الشباب: ”الطريق الحقيقي و الأصيل يمرّ عبر التجارب مُشترطاً صدق المرء مع عزلته، و إخلاصه لخِبرته الذاتية“.
كُلّ جيلٍ صاعد يعتقد أن عليه أن يُجابه ضغوطاً لم يسبق لها مثيل للأِمتِثال والإنِخراط في السياق الاجتماعي السائد. و أن عليه أن يُكافح أكثر من الأجيال السابقة ليحمي مَصدر نزاهته: خِبرته الذاتية. إلا أن هذا الإعتقاد نابعٌ من الغرور المُعتاد للثقافة التي لا تُبصر تحيّزاتِها الخاصّة، و تجهل نظائِرها في السياقات التاريخية. وفي الواقع فإن أغلب مايحدث حولنا هو إنعكاس للظروف التي خلقناها و نستمِر في تعزيزها عبر النظام الإعلامي الإيكولوجي الحالي؛ نظام بافلوفي من ردود الفعل الشرطيّة، حيث تُكافأ الآراء الشائِعة السطحية، وتُهاجم الأصوات المتفرِّدة مِن قِبل الغوغاء.
وقف قِلّة من الناس في وجه هذا الإكتساح الثقافي للفردية، ومن أكثرهم ثباتا و شجاعة إي. إي. كامينجز (1894 – 1962)؛ الفنان الذي لم يخش كونه متفرداً و لاتقليدياً. والذي وُصف مِن قِبل أحد أكثر كتّاب سيرته الذاتية دقّة بأنه كان ”يزدري الخوف، ويعيش حياته في تمردٍ على كلّ من يحاول أن يحكُمها“.
في عنوان مقارب للكتاب الصغير الذي يضجّ بالحكمة للشاعر الألماني (رينير ماريه ريلكه) (رسائل إلى شاعر شاب)، نشرت صحيفة محليّة تصدر في ولاية ميشيغن نصّاً قصيراً لـ(كامينجز) بُعيد عيد ميلاده التاسع والخمسين تحت عنوان: ”نصيحة من شاعر إلى الطلاب“. يُخاطب فيه أولئك الطامحين في أن يكونوا شعراء – وبطبيعة الحال يتّسع المعنى ليضُمّ جميع الفنانين النابهين الذين يمتلكون الشجاعة لِحدس الحقيقة الإنسانية:
إن الشاعر هو امرؤٌ يتعمّق في المشاعر، ويطوّعها ليصوغها في كلمات.
وعلى الرغم من أن ذلك قد يبدو عملاً يسيراً، بيد أنه ليس كذلك.
فالكثير من الناس ”يُفكر“ أو ”يعتقد“ أو ”يعرف“ أنّه يشعُر، إلا أن ذلك كله ليس “شعوراً” في الحقيقة. وقرضُ الشعر في لبّه وصميمه خبرةٌ عميقة بالمشاعر، و ما أعنيه هو أنه ليس “معرفة” و لا “اعتقاد” ولا “تفكير”.
و أي إنسان يمكنه أن يتعلّم ”كيف يُفكر“، أو ”كيف يعتقد“ أو ”كيف يعرف“، ولكن لا يُمكن لأيّ كان أن يتعلّم ”كيف يشعُر“. تسائلني لماذا؟ لأنك حين ”تفكّر“ أو ”تعتقد“ أو ”تعرف” تستبطِنُ آراء الآخرين: إلا أنه في اللّحظة التي تغمُرك بها المشاعر وتكوّن خبرة ذاتيه عميقة فلستَ أيّاً سوى نفسُك.
و أن لا تكون سوى نفسك، في عالم يبذُل قُصارى جُهده ليلاً ونهاراً، لأن يجعل منك نسخةً مكررةً لمن حولك يعنى أن تجاهد أصعب معركة يخوضها -ولا يتوقف عن خوضها- المرء.
لا يتحدّث (كامنجز) من فراغ، فقبل أربع سنوات و عقِب منحه الزمالة المرموقة لأكاديمية شعراء الولايات المتحدة الأمريكية، كان قد خاض معركة وتحمّل النقد القاسي الذي وجّه له من الشعراء التقليديين الذين طوقوه بالكراهية نظير شجاعته في كسر التقاليد و كونه في فنّه ”لا أحد سوى نفسه“. وهكذا بنظرة مُتفحّصة لتلك النزاهة الخلّاقة المنيعة، تعززها أخلاقيات عمل صارمة، يُضيف:
أمّا بالنسبة لأن تنظِم كلمات تعبّر بدقّة عن أعماقك – ولا أحد سواك – فإن ذلك يعني أن تبذل جهداً أكبر من أن يمكن تصوّره لأي شخص لا يُمارس قرض الشعر. تُسائلني لِماذا؟ لأنه لا أيسر من استعمال الكلمات المستهلكه. وهذا مانفعله جميعاً معظم الوقت و لا نكون شعراء حينها.
أمّا إذا وَجدت نفسك، بإنتهاء أوّل عشرة أو خمسة عشر عاماً من الكِفاح و العمل و الإستغراق في المشاعر، قد كتبت سطراً من قصيدة وحيدة، فإعلم أنك محظوظ جداً.
وهكذا فإن نصيحتي لجميع الشباب الذين يرغبون في أن يُصبحوا شعراء هي: مارِِسوا عملاً أيسر مثلَ ”تعلّم كيفية تفجير العالم“، إلا إذا ماكنّتم متطلّعين – لا مجرّد مستعدّين –للإستغراق في المشاعر، و الكفاح والعمل حتى الموت.
هل يَبدو ذلك لكم مُغمّا؟ ليس كذلك.
إنّها أروع حياة على وجه الأرض.
على الأقلّ هذا ما أشعُر به.
[المصدر]