النباهة والاستحمار عند علي شريعتي
علي شريعتي مفكر إيراني مشهور ويعتبر من ملهمي الثورة الإسلامية في إيران. ساهم في النشاط السياسي حيث اعتقل عدة مرات وانتهى المطاف باغتياله عن ٤٣ عاماً فقط. ترك العديد من الكتب والأعمال الهامة في الفكر الإسلامي منها “التشيع العلوي والتشيع الصفوي” و”العودة إلى الذات” وغيرها. في هذه التدوينة سنستعرض مقتطفات من كتابه “النباهة والاستحمار” والذي يكشف عن نافذة من الإلهام من فكر علي شريعتي.
يعتقد شريعتي بأن قيمة الإنسان تكمن في قيمته للاختيار، وحريته في الاعتقاد واتخاذ القرار، فيقول :
إن أكبر قيم الإنسان هي تلك التي يبدأ منها بالرفض وعدم التسليم اللذين يتلخصان بكلمة (لا). … لا شك أن من أدرك لذة التمرد والرفض والأخلاقية والنباهة، لن يبدلها بأي شيء، ولن يبيعها بأي ثمن، ولكن ماذا حدث لنا حتى بدلنا ذلك بسهولة ؟ المسألة هو أنه لا نباهة لنا، فنحن لا نستقيم إلا أن علتنا يد أقوى، أو سوط قاس، يظل فوقنا مدى الحياة.
ويطرح بعد ذلك التحفيز الذاتي كحل لمواجهة الجلاد :
إن المعرفة النفسية أو الدراية أو النباهة الموجودة عند الفرد بالنسبة إلى نفسه، هي فوق معرفة الفلسفة والعلم والصنعة، لأن الأخيرة معرفة، وليست (معرفة نفسية) أي ليست الشيء الذي يريني نفسي، فيستخرجني فيعرفني ذاتي، الشيء الذي يلفت انتباهي إلى قدري وقيمتي. فقيمة كل إنسان بقدر إيمانه بنفسه.
وبعد النباهة النفسية الشخصية، يبدأ بالحديث عن نوع ثان من النباهة:
المسألة الثانية التي أسميها (ثقافة)، هي الوعي السياسي بالمعنى الأفلاطوني للسياسة، لا بمعنى الصحف اليومية، بل بالمعنى الأفلاطوني للبحث المنتخب الاختياري. أي شعور الفرد بمرحلة المصير التاريخي والاجتماعي للمجتمع، وعلاقته بالمجتمع والمقدرات الراهنة بالنسبة إليه وإلى مجتمعه، وعلاقته المتقابلة بأبناء شعبه وأمته، والشعور بانضمامه وارتباطه بالمجتمع.
[…] إذًا النباهة نباهتان (نباهة نفسية أو فردية) و(نباهة اجتماعية) … فعدوّي أنا كإنسان، وعدونا نحن كمجتمع إنساني أو عقائدي أو شعبي، كان العدو شخصًا أم أداة، فهو يسلب منا الوعي، ويبدلنا بهما جهلًا وفقرًا وذلًا، وإن كانت على شكل معرفة. […] إن الوعي النفسي والنباهة الشخصية هي التي يمكن أن تُشعر الإنسان بما فات منه، وبما يستهلكه العالم منه. كما أن الوعي الاجتماعي هو الذي يمكن أن يشعره بما يجري على مصير مجتمعه في الخفاء.
أما التخلي عن النباهة فهو يؤدي إلى الاستحمار -كما يحب شريعتي أن يسميه-. حيث يقول بأن التخلي عن النباهة سيؤدي بالضرورة إلى ما يقابلها
وأي دعوة أو دعاية وكلام وتقدم وحضارة وثقافة وقدرة تكون خارجة عن إطار هاتين الدرايتين، فهي ليست إلا تخديرًا للأفكار، وللانصراف عن الإنسانية والاستقلال والحرية. إنه تسخير للإنسان كما يُسخّر الحمار. ومن هنا أطلق عليه اسم (استحمار) … إذًا فمعنى الاستحمار ؛ تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وحرف مسار النباهة الإنسانية والاجتماعية.
ويضرب مثلًا لتوضيح مفهوم الاستحمار بشكل أكبر:
عندما يشب حريق في بيت، ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرع إلى الله، ينبغي عليك أن تعلم أنها دعوة خائن. فكيف لو كانت دعوته إلى عمل آخر أقل شأنًا ؟ فالاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف عنه إلى عمل آخر، ماهو إلا استحمار، وإن كان عملًا مقدسًا أو غير مقدس …
تنبه! فالاستحمار قد لا يدعوك إلى القبائح والانحراف بشكل دائم، بل -وعلى العكس- قد يدعوك إلى المحاسن، ليصرفك عن الحقيقة التي يشعر هو بخطرها، كيلا تفكر فيها فتنبهك أنت والناس.
ولا تتوانى طرافة شريعتي عن تقسيم الاستحمار إلى قسمين حيث يفصلها قائلا:
الاستحمار نوعان ؛ استحمار مباشر وغير مباشر. المباشر منه عبارة عن تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة، أو سوق الأذهان إلى الضلال. أما غير المباشر منه فهو عبارة عن إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية البسيطة اللافورية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية والحياتية الكبيرة والفورية.