روجر روزنبلات، عن القوى الخفية لنجاح الكتابة
روجر روزنبلات (مواليد 1940)، هو كاتب أمريكي. لفترة طويلة، امتهن كتابة المقالات لعدد من المجلات، مثل (تايمز)، و(پي بي إس نيوز أور). كما قام بكتابة عدد من الكتب. في مقالة كتابها في الخامس والعشرين من شهر أغسطس، من عام 2017، والتي نُشرت في صحيفة (نيويورك تايمز)، تحدث عن “القوى الخفية لنجاح الكتابة”، ننقلها لكم في ترجمة حصرية لدى ساقية:
صرحت الكاتبة والناقدة (كاثرين شولتز) في مقالتها عبر مجلة نيويورك قبل عدة أعوام بأننا غير قادرين على رؤية أغلب الأشياء التي تتحكم في حياتنا. فالمجالات المغناطيسية والتيارات الكهربائية وقوة الجاذبية غير مرئية وهي مشابهة بذلك أفكارنا وميولنا الشخصية وشغفنا و أذواقنا ومزاجنا وأخلاقنا وحتى أرواحنا – إذا كنت ممن يؤمنون بالروح. فالعالم الخفي يتحكم في العالم الظاهر كدولة قومية خفية.
وينطبق الأمر ذاته على الكتابة. فعندما تتخيل صورة أو جملة أو شبه جملة يتراجع عقلك ويتساءل “من أين أتيت بتلك الجملة؟” لا أعني هنا الكتابة التلقائية على الرغم من إمكانية أن تكون جزء من ذلك. ولكن أعني النطاق الأوسع لجميع القوى الخفية الممكنة التي تنتج وتؤثر في الكتابة. فهناك بعض الأمور التي يراها الكاتب وحده و يعجز القارئ عن رؤيتها والبعض الآخر لا يراه الا القارئ بينما توجد بعض الأمور التي يستحيل رؤيتها على كلاً من الكاتب والقارئ. والنوع الاخير هو الاكثر فتنة ويملك قوة من نوع خاص. فهذا النوع يشبه إلى حد كبير الشبح (جايكوب مارل) في رواية”أنشودة عيد الميلاد” لـ(تشارلز ديكينز) حيث يوجه الكتابة إلى اتجاهات غير متوقعة ومخيفة بعض الأحيان ولكنها مثمرة.
فما يراه الكاتب من القارئ هو النوع الأبسط لأنه يتمحور حول المهارة مثل مهارة إخفاء الرموز في الشعر أو النثر على سبيل المثال. فإذا أجاد الكاتب عمله فلن يستطيع القارئ أن يتعرف على الرموز فوراً حتى يكمل قراءة العمل مما يزيد من عمق المعنى. فالرمز مخفي. أي أن العمل سواء كان رواية او مسرحية او مقال او قصيدة هو مخفي أيضا. فالقارئ لا يعي العمل والجهد المبذول من الكاتب لاختيار تلك الرموز والتفكير في الكثير منها قبل العثور على الرموز المناسبة. ويقول الشاعر الإنجليزي (ويليام ييتس) حول كتابة الشعر “اذا لم يبدو الأمر وكأنه مجرد لحظات من التفكير، فإن حياكتنا، للشعر، ستبدو كالعدم”.
فالقارئ لم يطلع على النسخة الأولى أو الثانية أو التاسعة عشر ولكن الكاتب يعرف ويتذكر هذه المسودات والتي تمتلك بدورها تأثير خفي على العمل. فمع تحسن شكل أسطر القصيدة أو شخصية الرواية يزيد فهم الكاتب او الكاتبة لأهداف العمل. فالمسودة الأولى هي بمثابة الطفل الذي يصبح رجلاً و يكون الكاتب متفهماً للعمل بعمق حيث شهد جميع خطوات التطور.
وبالاضافة الى ذلك فان الكاتب على اطلاع بما حدث في القصة قبل بدايتها. فجميع القصص القصيرة تكون منتهية قبل أن نقرأ السطور الأولى منها. فتشكل القصة اللحظة الرئيسية وهي نتيجة لقصة غير مرئية، خفية، وقعت بالفعل. فتوجب على الروائي الامريكي (جيروم سالينغر) أن يعلم جميع الامور حول شخصية (سيمور جلاس) قبل أن يصل (سيمور) الى فلوريدا في قصة “يوم مثالي لاصطياد الموز”. فعند وصوله الى فلوريدا كان الوقت متأخراً بالفعل.
ولكن ما الذي يراه القارئ ويكون خفي بالنسبة للكاتب؟ الإجابة بشكل أساسي هي حياة القارئ. فالكاتب ينشر كتابه ويطلقه الى العالم ولا يعلم أين سيحط رحاله أو التأثير الذي سيتركه على القارئ الذي لا يراه. هناك بالطبع تلك اللحظة الرائعة للكاتب حيث يخبره أحد القراء بأن كتابه كان سبب في تغير حياته. وهذه اللحظة جميلة باستثناء إذا كان الكتاب تسبب في تغيير حياة القارئ الى الاسوء. فالكتاب لا يرون القراء وحياتهم التي بمثابة السر. فالكاتب يطمح أن يكون عمله حقيقي بشكل عام بحيث يتقبله القارئ ويجعله جزءاً من قصته الخاصة. فالكاتب يعتمد على ويكتب الى عالم خفي وإذا تمكن القارئ أن يرى نفسه في عمل الكاتب فهذا أمر رائع. ولكن الكاتب لن يعلم هذه الحقيقة أبداً. فالقارئ هو بمثابة شخصية هارفي الصديق الخفي العملاق، والذي نأمل أن يكون لطيفاً.
ولكن النوع الأعظم والأكثر أرضاءاً على الاغلب من الجوانب الثلاثة الخفية هي الأمور المخفية عن الكاتب والقارئ في نفس الوقت ولكن يعلم الطرفين بوجودها. ويحكي الكاتب ورسام الكاريكاتير الامريكي (جول فيفر) قصته عندما بدأ رسم الكاريكاتير في صحيفة (ذا فيليج فويس). وقبل طباعة أول كاركاتير من أعماله حذرته والدته التي تخيفه كثيرا بأنه إذا كان سيرسم امرأة مخيفة وظالمه فمن الأفضل أن لا تبدو مثلها. وأكد جول لوالدته بأنه رسوماته لا تمت لها بصلة ولكن عندما طبع أول كاركاتير كتب جول في مذكراته أنه حدق في تلك الرسمه ورأى والدته.
من يعلم مصدر الأشياء في الكتابة؟ فالشاعر الأيرلندي (شيموس هيني) عبر عن إحساسه بالقدر الموجه من الآله ولكن باختلاف أنواع القوى يتفق الجميع أن أغلبية الكتاب يشعرون بالإلهام والارتباط بأعمالهم. وهذا الالهام يرسم خرائط غامضة تدفع الكاتب لتغير مساره السابق في منتصف العمل وكأنما استولت يد الشبح على زمام الأمور.
أعي تماما بأن كتابتي تحسنت خلال الأعوام التسعة الماضية منذ وفاة ابنتي. فكتابتي الآن أكثر حدة وأكثر حذراً. وسأتخلى بكل سرور عن جميع الكتب التي نشرتها خلال هذه الاعوام التسعة مقابل لحظة واحدة مع أبنتي آيمي. ولكن لاستحالة هذه المساومة، فسأكتب ليمتلئ الفراغ الذي خلفه رحيلها. وسأكتب لأنني إذا كنت أعتقد بأن وفاة آيمي جعلني أكتب بجدية أكثر فهي إذن تعيش معي بشكل خفي. وأنا أكتب كي أراها.
[المصدر]