عوامل نشأة الحضارات عند وَيْل ديورانت
ويليام جيمس ديورانت (1885 – 1981) فيلسوف، مؤرخ وكاتب أمريكي من أشهر مؤلفاته كتاب (قصة الحضارة) والذي شاركته زوجته (أريل ديورانت) في تأليفه.
تحدث (ديورانت) عن العوامل الجغرافية والاقتصادية في نشأة الحضارات، فقال:
فحرارة الأقطار الاستوائية وما يجتاح تلك الأقطار من طفيليات لا تقع تحت الحصر، لا تهيئ للمدنية أسبابها، فما يسود تلك الأقطار من خمول وأمراض، وما تُعرف به من نضوج مبكّر وانحلال مبكر، من شأنه أن يصرف الجهود عن كماليات الحياة التي هي قوام المدنية، ويستنفدها جميعاً في إشباع الجوع وعملية التناسل، بحيث لا تَذَرُ للإنسان شيئاً من الجهد ينفقه في ميدان الفنون وجمال التفكير؛ إذن فالعوامل الجغرافية على الرغم من أنها يستحيل أن تخلق المدنية خلقاً، إلا أنها تستطيع أن تبتسم في وجهها، وتهيئ سبيل ازدهارها.
والعوامل الاقتصادية أهم من ذلك، فقد يكون للشعب مؤسسات اجتماعية منظمة، وتشريع خلقي رفيع، بل قد تزدهر فيه صغريات الفنون، كما هو الحال مع الهنود الأمريكيين، ومع ذلك فإنه إن ظلَّ في مرحلة الصيد البدائية، واعتمد في وجوده على ما عسى أن يصادفه من قنائص، فإنه يستحيل أن يتحول من الهمجية إلى المدنية تحولاً تاماً، قد تكون قبيلة البدو- كبدو بلاد العرب- على درجة نادرة من الفتوة والذكاء، وقد تبدي من ألوان الخُلق أسماها كالشجاعة والكرم والشيم، لكن ذكاءها بغير الحد الأدنى من الثقافة التي لا بد منها، وبغير اطراد موارد القوت، ستنفقه في مخاطر الصيد ومقتضيات التجارة، بحيث لا يبقى لها منه شيء لوَشْى المدنية وهُدابها ولطائفها وملحقاتها وفنونها وترفها.
كما تحدث أيضًا عن ارتباط الثقافة بالزراعة، فقال:
وأول صورة تبدت فيها الثقافة هي الزراعـة، إذ الإنسان لا يجد لتمدنه فراغاً ومبرراً إلا إذا استقر في مكان يفلح تربته ويخزن فيه الزاد ليوم قد لا يجد فيه مورداً لطعامه؛ في هذه الدائرة الضيقة من الطمأنينة- وأعني بها مورداً محققاً من ماء وطعام- ترى الإنسان يبني لنفسه الدُّور والمعابد والمدارس، ويخترع الآلات التي تعينه على الإنتاج ويستأنس الكلب والحمار والخنزير، ثم يسيطر على نفسه
آخر الأمر، فيتعلم كيف يعمل في نظام واطراد، ويحتفظ بحياته أمداً أطول ويزداد قدرة على نقل تراث الإنسانية من علم وأخلاق نقلاً أميناً.
إن الثقافة لترتبط بالزراعة كما ترتبط المدنية بالمدينة، إن المدنية في وجه من وجوهها هي رقة المعاملة ، ورقة المعاملة هي ذلك الضرب من السلوك المهذب الذي هو في رأي أهل المدن- وهم الذين صاغوا حكمة المدنية- من خصائص المدينة وحدها، ذلك لأنه تتجمع في المدينة- حقاً أو باطلاً- ما
ينتجه الريف من ثراء ومن نوابـغ العقول؛ وكذلك يعمل الاختراع وتعمل الصناعة على مضاعفة وسائل الراحة والترف والفراغ؛ وفي المدينة يتلاقى التجار حيث يتبادلون السلع والأفكار؛ وهاهنا حيث تتلاقى طرق التجارة فتتلاقح العقول، يُرهف الذكاء وتُستثار فيه قوته على الخَلق والإبداع، وكذلك في المدينة يُستغنى عن فئة من الناس فلا يُطلب إليهم صناعة الأشياء المادية، فتراهم يتوفرون على إنتاج العلم والفلسفة والأدب والفن؛ نعم إن المدنية تبدأ في كوخ الفلاح، لكنها لا تزدهر إلا في المدن.
وفي موضع آخر يقول بأن المدنية لا جنسية لها:
وليست تتوقف المدنية على جنس دون جنس، فقد تظهر في هذه القارة أو تلك، وقد تنشأ عن هذا اللون من البشرة أو ذاك، قد تنهض مدنيّة في بكين أو دلهي، في ممفيس أو بابل، في رافنا أو لندن، في بيرو أو يوقطان. فليس هو الجنس العظيم الذي يصنع المدنية بل المدنية العظيمة هي التي تخلق الشعب، لأن الظروف الجغرافية والاقتصادية تخلق ثقافته، والثقافة تخلق النمط الذي يصاغ عليه. ليست المدنية البريطانية وليدة الرجل الإنجليزي ولكنه هو صنيعتها، فإذا ما رأيته يحملها معه أينما ذهب ويرتدي حُلة العشاء وهو في “تمبكتو”؛ فليس معنى ذلك أنه يخلق مدنيته هناك خلقاً جديداً، بل معناه أنه يبين حتى في الأصقاع النائية مدى سلطانها على نفسه. فلو تهيأت لجنس بشري آخر نفس الظروف المادية، ألفيت النتائج نفسها تتولد عنها، وهاهي ذي اليابان في القرن العشرين تعيد تاريخ إنجلترا في القرن التاسع عشر، وإذن فالمدنية لا ترتبط بالجنس إلا بمعنى واحد، وهو أنها تجيء عادة بعد مرحلة يتم فيها التزاوج البطيء بين شتى العناصر، ذلك التزاوج الذي ينتهي تدريجياً إلى تكوين شعب متجانس نسبياً. وأخيراً لابد من تربية- وأعني بها وسيلة تُتخذ- مهما تكن بدائية- لكي تنتقل الثقافة على مر الأجيال، فلابد أن نورث الناشئة تراث القبيلة وروحها، فنورثهم نفعها ومعارفها وأخلاقها وتقاليدها وعلومها وفنونها، سواء كان ذلك التوريث عن طريق التقليد أو التعليم أو التلقين، وسواء في
ذلك أن يكون المربي هو الأب أو الأم أو المعلم أو القسيس، لأن هذا التراث إن هو إلا الأداة الأساسية التي تحول هؤلاء النشء من مرحلة الحيوان إلى طور الإنسان.
ويجيب عما لو انعدمت هذه العوامل :
ولو انعدمت هذه العوامل- بل ربما لو انعدم واحد منها- لجاز للمدنية أن يتقوض أساسها. فانقلاب جيولوجي خطير، أو تغيُّر مناخي شديد أو وباء يفلت من الناس زمامه كالوباء الذي قضى على نصف سكان الإمبراطورية الرومانية في عهد “الأناطنة” (جمع أنطون)، و “الموت الأسود” الذي جاء عاملاً على زوال العهد الإقطاعي … فإذا ما حدث اضطراب خطير في عواملها الاقتصادية أو في طرائق انتقالها من جيل إلى جيل فقد يكون عاملاً على فنائها.