العلوم البشرية والاجتماعية

عن التوازن بين المتع عند البشر

في كتابه (تطوّر المتع البشريّة رغبات و قيود) لـ(شارل كورنريخ) و بترجمة (محمد حمّود)، طرح سؤالاً في الفصل السادس المعنون بـ “توازنات المتعة و اختلالها”، يقول:

ماهو تأثير الأنظمة الاقتصادية و الثقافية في رفاهية الأفراد، وفي قدرتهم على الإحساس بالمتعة؟ 
يجيب على ذلك:
هناك ترابط خطي، بل يكاد يكون تاماً بين متوسط المداخيل في بلد ما و مستوى الرضا عن العيش. إن الأمة التي ينقص دخل الفرد فيها عن 2,000 دولار في السنة لاتشعر بالرضا الذي تشعر به أية أمة يصل دخل الفرد فيها إلى 20,000 دولار في السنة.
يرى (فينهوفن) أن الظروف الموضوعية التي تخدم الطبيعة البشرية تولد السعادة، و أن الخصائص الإيجابية للمجتمعات، تتوقف على الدرجة التي تلبي فيا الحاجات الأساسية للبشر. المشكلة هنا هي تناقض هذه الحاجات في ما بينها: منافسة، منزلة، الرغبة في التمايز, وجوب التعاون، الصداقة مع الآخر و الانضواء تحت رايته.
هناك ارتباط بين مستوى متوسط المداخيل في بلد ما، ودرجة رفاهية سكانه، ومع ذلك لهذا سقف، مما يعني أن هناك عوامل أخرى، تدخل في الحسبان، إثر تجاوز عتبة مّا. هذا بديهياً مفهوم، ويلتقي مع المفاهيم التي روجها (هرم ماسلو) الذي أقام تراتبية بين الحاجات. إذا كنا جائعين، والحاجات الأولية ليست مشبعة، تصبح مصادر المتع الأخرى ثانوية نسبياً. و هكذا فإن الاكتفاء المالي في البلدان الفقيرة هو أفضل مؤشر على الرفاهية الشفهية مما هو في البلدان الفنية.
عندما يتم إشباع الحاجات الأساسية، تصبح ثوابت أخرى، مثل تقدير الذات، على درجة من الأهمية. كانت درجة الغنى في الولايات المتحدة كبير جداً حيث تقدر زيادة الدخل الفعلي، بعد حسم الضرائب و احتساب التضخم 22 مرة مابين 1946 و 1992. لم يقترن هذا بزيادة مستوى المعيشة، ما أبعد الأمر عن ذلك، بل كان الأمر أقرب إلى شيء من الركود.
يرجع السقف المتعي في المجتمعات الفردانية إلى عاملين أساسيين. يقوم الأول على المقارنة الاجتماعية، ويتمظهر الثاني بفقدان قوة العلاقات الحميمة. ما إن تتم تلبية الحاجات الأولية، حتى يتم التوجه إلى تقييم المدخول من خلال المقارنة. إذا ماعاش إنسان، متواضع الدخل، وسط عائلة غنية، فإنه يشعر بعدم الرضا، أما إذا كان متوسط الدخل، ويعيش في بيئة فقيرة، فإنه يشعر أنه متخم.
تجري المقارنة الاجتماعية موضعياً. و هي بالتالي تميل للحدوث، بنسبة أكبر، داخل كل بلد أكبر مما بين البلدان، حتى إن كان ظهور وسائل الإعلام العالمية، يؤدي شيئاً فشيئاَ إلى تغيير هذا الأمر، هناك متغير آخر يسمح بالحكم على الصفة المناسبة للمداخيل، هو إجراء مقارنة بين وضع الشخص الآن، ووضعه في مراحل مختلفة من حياته.
و مع ذلك فإن المقارنة الاجتماعية، لاتؤثر طولياً في مدى الإحساس بالرفاهية. و بالفعل، يستطيع الأشخاص اختيار أولئك الذين يودون إجراء المقارنة معهم، آخذين بعين الاعتبار تصورهم عن أنفسهم.
يرتبط العامل الثاني بفقدان الحميمة المقترنة بالاكتظاظ. تتلازم زيادة الفردانية مع زيادة نسبة الطلاق، وضعف التماسك الأسري، مما يخفف من التأثيرات الإيجابية لاكتظاظ أكبر.
تخطط البلدان الأكثر استعداداً للرفاهية، لنمو اقتصادي مهم، فحقوق الإنسان فيها محترمة، وهناك مساواة في الحقوق السياسية و المدنية بالنسبة للمرأة. وعلى نقيض ذلك، فالبلدان التي يكون الشعور بالرضا في أضعف درجة فقيرة جداً، غير مستقرة سياسياً، وغالباً ما تكون في حالة حرب أهلية، أو خارجية.
وبصرف النظر عن الاختلافات في مفهوم الرفاهية مابين الثقافات، نلاحظ أيضاً اختلافات داخل الثقافات، ويرتبط واحد من أكبر العوامل المؤثرة في هذه الاختلافات إلى الفئة العمرية التي ننتمي إليها.
و هكذا فإن الأفراد المولودين في السبعينات يتمزون بتثمين أهداف الحياة الشخصية، وهم أقل اهتماماً بإنجاز المهمات التنموية التقليدية، مثل إنجاب الأولاد، أو تلبية الطلبات الأسرية والاجتماعية، مقارنة مع الأفراد الذين ولدوا في العشرينات.
تتوقف حال الرفاهية على عوامل عدة: قبول الذات، و إقامة علاقات إيجابية مع الآخرين، والاستقلالية، والسيطرة على البيئة، وتحقيق أهداف الحياة و التطور الشخصي.
وفي الواقع، أنه لا يمكن فصل عدد من هذه الثوابت بشكل واضح عن المستويين الفردي و الاجتماعي. في درجة الاستقلالية، والسيطرة على المجتمع الذي ننتمي إليه، وعلى مرجعياته الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية.
لأن مشاعر الاستقلالية هي أكثر حضوراً في الثقافات الفردانية، وتظهر وتكشف عن مزيد من الترابط مع الإحساس بالرفاهية مماهي عليه الحال في المجتمعات الجماعية.
و مع ذلك، يمكن للفروقات القائمة بين الثقافات في مسألة تقويم ما هو الذي يساهم في إذكاء الشعوب بالرفاه، أن تدفع شيئاً فشيئاً بطابع العولمة. بات الرخاء المادي هدفاً مهماً في غالبية المجتمعات.
هناك القليل من الإحساس بزيادة الشعور بالرفاهية لدى الأمم الأكثر غنى، ذلك أن التحسن في الظروف المادية بعد مستوى معين، لا يساعد هذه المجتمعات على التعامل بشكل أفضل مع الحاجات البشرية.
مع ذلك، علينا أن نذكر هذه الملاحظة: نجد لدى فاحشي الثراء مستويات متزايدة من الشعور بالرفاهية بالمقارنة مع شريحة المداخيل الأدنى، وهذا يتلاءم مع فكرة كون الثورة تسم بالوصول إلى مستويات رفيعة في عملية تحقيق الذات.
ومع ذلك، وبشكل عام، لايمكننا القول إن زيادة الثروة، قد لا تقود، بشكل محتم إلى زيادة الشعور بالهناء. وإذا كانت المجتمعات الفنية قريبة من نقطة مابعد المادية، يحيث لا يزيد تحسن الأوضاع المادية والخدمات، سوى القليل جداً في الإحساس بالراحة، فإننا نجد أنفسنا على مفترق طرق حساس، فيما يتعلق بالسياسة العامة والخيارات الفردية.

هاجر العبيد

مشرفة نادي القراءة بطيبة، عضو مؤسس لنادي قبَس الثقافي بجامعة طيبة، مهتمّة بالعلوم الإنسانيّة و التَاريخ و الأديان.
زر الذهاب إلى الأعلى