#سيلفيا_بلاث عن الإرادة الحرة وركائز الشخصية وما يبني هندسة الـ “أنا”
أنا (I): ما مدى رسوخ هذا الحرف؛ كيف لثلاثة خطوط فقط أن تبعث على الاطمئنان: واحد رأسي, متعالٍ وجازم, ثم الخطان الأفقيان القصيران في تتابع سريع ومعتدٍ بنفسه
إن أحد أبرز تحيزاتنا البشرية هو الميل إلى نسب نجاحاتنا إلى امتيازاتنا الشخصية وعزو الإخفاقات إلى الظروف الخارجية. يعد الامتياز في حد ذاته أمرًا إشكاليًا كونه يقود أصحابه إلى الاعتقاد بأنهم جديرون تمامًا بما يملكون من مزايا وأن نقائص الأشخاص الأقل حظًا مستحقة بالكامل؛ ذلك في حين أن التيارات الثقافية القوية في الواقع يمكن أن تحملنا في أي من الاتجاهين بناءً على قوى ثقافية وسياسية واقتصادية خارجةٍ تمامًا عن شخصياتنا وقدراتنا وقيمنا الشخصية. ولكن عندما نُجرّد من كل ظروفنا الخارجية, سواءٍ أكانت يسيرةً أم عسيرة, فمن نحن في أعماق أنفسنا؟ ما الذي يبني هندسة الـ«أنا»؟
هذا ما تتناوله الشابة (سيلفيا بلاث) [٢٧ أكتوبر ١٩٣٢ – ١١ فبراير ١٩٦٣م] في مقطعٍ استثنائيٍ واعٍ ومؤثرٍ من (اليوميات غير المختصرة) – نفس المجلد الرائع الذي شاركتنا فيه الشاعرة التي سبقت أقرانها أفكارها حول إيجاد ألوهية ذات طابع لادينيّ واحتفاءها الجذل بالفضول وتأملاتها في الحياة والموت والأمل والسعادة.
تستجلي (بلاث) البالغة من العمر ثمانية عشر عامًا في افتتاحية إحدى يومياتها من خريف عام 1950 موضوع الإرادة الحرة ومعوقات الامتياز وما يجعلنا ما نحن عليه؛ إذ تكتب:
ما الذي أعرفه عن الحزن؟ لم يمت أي شخص أحبه أو يتعرض للتعذيب ولم أرغب قط في الحصول على لقمةٍ أو مكانٍ للنوم, ولدت موهوبة بخمس حواس كاملةٍ ومظهر جذاب؛ لذا فإن بإمكاني أن أتفلسف من مقعدي الصغير المبطن والمريح.
إنني أرتاد واحدة من أكثر الكليات المرموقة في أمريكا وأعيش مع ألفي فتاة من أبرز الفتيات في الولايات المتحدة، ما الذي علي أن أشكو منه إذًا؟ لا شيء يذكر.
الطريقة الأساسية التي يمكنني من خلالها أن أزيد من احترامي لذاتي هي القول بأنني في منحة دراسية وأنني لو لم أمارس إرادتي الحرة وألتحق بالمدرسة الثانوية فلن أكن لأصل إلى هنا مطلقًا. وعلى ذكر الإرادة الحرة، فكم من ذلك كله يعد إرادة حرة؟
ما مدى القدرة على التفكير التي اكتسبتها من والداي، والحث الشديد من الأهل على الدراسة وتحقيق نتائج أكاديمية ممتازة وضرورة إيجاد بديل للعالم الاجتماعي للبنين والبنات الذي رفضت تقبله؟
ألم تولد رغبتي في الكتابة أساسًا من ميل نحو الانطواء بدأ منذ كنت طفلةً إذ نشأت كما لو كنت في عالم القصص الخيالية لـماري بوبينز وويني ذا بوه؟
ألم يميزني ذلك عن معظم زملائي في المدرسة؟ -كوني حصلت على جميع العلامات الممتازة وكنت «مختلفةً» عن (كونوايز) المتعثر. كيف؟ لست متأكدةً تمامًا لكنني «مختلفة”» كالحيوان بلمسة الأيدي البشرية فيه عندما عاد إلى القطيع.
قد يكون ذلك حيلةً ذكيةً لفضل نفسي بأنانية عن القطيع العادي؛ لكنني لن أعطي الأمر أهمية أكبر مما يستحق.
كتبت (بلاث) قبل ذلك بعام رسالةً إلى والدتها تقول بين سطورها: «أرغب في أن أكون حرة؛ حرةً في معرفة الأشخاص وخلفياتهم، وفي الانتقال إلى أجزاء مختلفة من العالم لأتعلم أن هناك أخلاقًا ومبادئ أخرى إلى جانب ما لدي». الآن؛ ومع كل هذا الفضول المتعاطف والوعي الحاد بكيفية إظهار الخلفيات الثقافية المختلفة لمنظوراتٍ متفاوتةٍ للشخصية, تعود إلى مسألة الإرادة الحرة في يومياتها:
أما بالنسبة للإرادة الحرة فإنها كصدعٍ ضيقٍ يتحرك فيه الإنسان، محطمًا منذ ولادته بسبب البيئة والصفات الموروثة وبسبب الوقت والأحداث والتقاليد.
لو كنت قد ولدت لأبوين إيطاليين في أحد الكهوف في التلال فسأصبح عاهرة في سن الثانية عشرة أو نحو ذلك لأن علي أن أعيش (لِمَ؟) لأن ذلك كان السبيل الوحيد المتاح للعيش. أما لو كنت قد ولدت لعائلة ثرية في نيويورك بميول ثقافية زائفة فكنت سأقيم حفل تقديمي إلى المجتمع مع من هم مثلي؛ أناسٌ مهندمون بمعاطف من الفرو، دوامةٌ من العلاقات الاجتماعية وتعابير غير مكترثة.
كيف لي أن أعرف؟ لا أستطيع؛ كل ما يمكنني هو التخمين.
ما كنت لأكون أنا ولكن ها أنا ذا؛ كالملايين من الآخرين الذين هم على نحو لا رجوع فيه من تنوعهم الخاص من الـ «أنا» لدرجة أنني بالكاد أستطيع تحمل التفكير في الأمر.
أنا (I): ما مدى رسوخ هذا الحرف؛ كيف لثلاثة خطوط فقط أن تبعث على الاطمئنان: واحد رأسي، متعالٍ وجازم، ثم الخطان الأفقيان القصيران في تتابع سريع ومعتدٍ بنفسه. خدوش القلم على الورق: “I… I… I… I… I… I.”.
بقلم: ماريا پوپوڤا
ترجمة: آمال السيد