القصة مرتبطة أحشائياً بتجربه كاتبها، عند يوسا
خورخي ماريو بيدرو فارغاس يوسا، ولد في 1936. روائي وصحفي وسياسيبيروفي. حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 2010 برز في عالم الأدب بعد نشر روايته الأولى (المدينة والكلاب) التي نال عليها جوائز عديدة منها جائزة (ببليوتيكا بريفي) عام 1963 م وجائزة النقد عام 1998. وقد ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة أجنبية. وتتالت أعماله الروائية، وتعددت الجوائز التي حصل عليها، وقد كان من أشهرها حصوله على جائزة ثيرفانتس للآداب عام 1994، والتي تعد أهم جائزة للآداب الناطقة بالإسبانية و كان يجيب في كتابه (رسائل إلى روائي شاب) عن التساؤلات المتعلقة بالكتابة، فقال:
صديقي العزيز:
لأنني أؤمن أيضاً بأن الأدب هو أفضل ما تم اختراعه من أجل الوقاية من التعاسة ؛ وإنما لأن القضية التي تسألني عنها كذلك، “من أين تخرج القصص التي تقصها الروايات؟”، “وكيف تخطر الموضوعات للروائيين؟” ما زالت تؤرقني به، في بدايات تعلّمي الأدبي .
لدي جواب يجب أن يكون محدداً بدقة، فأصل كل القصص ينبع من تجربة من يبتكرها. والحياة المعيشة هي الينبوع الذي يسقي القصص المتخيلة. وهذا لا يعني، بكل تأكيد، أن تكون الرواية على الدوام سيرة حياتية مستترة لمؤلفها ؛ بل يعني، بصورة أدق، أنه يمكن العثور في كل قصة، على نقطة انطلاق، على بذرة حميمة، مرتبطة أحشائياً، بجملة من التجارب الحياتية لمن صاغها.
أنه لا وجود بالتالي لاختراع كيميائي محض، في المجال الأدبي، فكل القصص التخيلية، هي هندسيات معمارية، تنتصب بالمخيلة والحرفية، استناداً إلى بعض الأحداث، و الأشخاص, و الظروف التي تركت أثراً في ذاكرة الكاتب، وحركت خياله المبدع الذي راح يبني، انطلاقاً من تلك البذرة، عالماً متكاملاً، شديد الغنى و التنوع إلى حد يبدو معه، أحياناً، أنه من المستحيل تقريبًا، التعرف فيه على تلك المادة الأولية، المأخوذة من السيرة الذاتية التي كانت أساسه و مبتدأه، والتي هي بطريقة ما، صلة الوصل السرية لأي قصة تخيلية بعالمها ونظيرها: الواقع الواقعي.
تشرح هذه الآلية بأنها أشبة بعملية ستريبتيز – تعّري – معكوسة. فكتابة الروايات تعادل ما تقوم به المحترفة التي تخلع ملابسها، أمام الجمهور، حتى تظهر جسدها عارياً. غير أن الروائي يمارس العملية في اتجاه معاكس. ففي سعيه إلى إحكام بناء الرواية، يأخذ بستر ذلك العري الأولي، أي نقطة بدء الاستعراض وموارته تحت ملابس كثيفة ومتعددة الألوان، تصوغها مخيلته. وهذه العملية شديدة التعقيد والدقة، حتى إن الكاتب نفسه لا يستطيع، في أحيان كثيرة، أن يحدد في النتاج النهائي، في ذلك الدليل الطافح بالحيوية على قدرته، على اختراع أشخاص وعوالم متخيلة، تلك الصور القابعة في ذاكرته -المفروضة من قبل الحياة– التي نشطت مخيلته، وشجعت إرادته و قادته إلى تدبر تلك القصة.
أما فيما يتعلق بالموضوعات، فأعتقد بأن الروائي يتغذى على نفسه، مثل الكاتوبليباس، هو مخلوق مستحيل، يلتهم نفسه بنفسه، بادئاً بقدميه. وبمعنى أقل مادية بكل تأكيد، يقوم الروائي كذلك، بالنبش في تجربته الحياتية الخاصة، بحثًا عن دعائم ومرتكزات لكي يبتكر قصصاً. وليس فقط من أجل أن يعيد إبداع شخصيات، أو أحداث، أو مشاهد، انطلاقاً من المادة الأولية التي توفرها له بعض الذكريات. وإنما لأنه يجد أيضاً في قاطني ذاكرته أولئك، الوقود للإرادة التي يحتاجها، لكي يتوج بالنجاح تلك العملية الطويلة والشاقة: صياغة الرواية.
فيما يخص موضوعات القصة المتخيلة. فالروائي لا يختار موضوعاته، بل هي التي تختاره. إنه يكتب حول شؤون بعينها، لأن أموراً بعينها قد حدثت له، فحرية الكاتب في اختيار الموضوع هي حرية نسبية، وربما غير موجودة. هو أن الحياة تفرض عليه الموضوعات من خلال تجارب معينة، تخلف أثراً في وعيه أو وعيه الباطن، ثم تحاصره بعد ذلك، لكي يتحرر منها، بتحويلها إلى قصص. ولاتكاد تكون هناك حاجة لبذل الجهد في البحث عن أمثلة على الطريقة التي تفرض بها الموضوعات نفسها على الكتّاب، من خلال معايشتهم، لأن الشهادات كلها تتفق عادة، حول هذه النقطة بالذات: “لقد لاحقتني هذه القصة، هذه الشخصية، هذا الموقف، هذه الحكاية، تسلطت على عقلي كمطلب آتٍ من أعمق ما هو حميم في شخصيتي. وكان علي أن أكتبها لأتحرر منها“.