آلبيرتو مانغويل وحديثه عن المكتبة بوصفها منزلًا
للعلاقة مع الكتاب والمكتبة فنون ومذاهب شتى، كيف تنشئ المكتبة؟ ومتى؟ لكل قارئ وصاحب مكتبة، سيرته الخاصة مع الكتاب والمكتبة .(ألبرتو مانغويل)، الكاتب، والناشر، والروائي أيضاً، يجيب عن ذلك في كتابه (فن القراءة)، في مقالته المعنونة “المكتبة منزلاً”.
يقول (مانغويل):
انقضت سبع سنين وأنا أقيم في منزل حجري قديم كان صاحبه كاهن كنيسة، في قرية تعداد بيوتها أقل من عشرة، جنوب وادي اللوار في فرنسا. اخترت المكان لأن هناك حظيرة تجاور المنزل نفسه، تداعت أجزاء منها منذ قرون، كبيرة بما فيه الكفاية لتستوعب مكتبتي التي تناهز كتبها ثلاثين ألف كتاب لملمتها على امتداد ستة عقود من الترحلات. كنت أعلم أنني سأعثر على مكاني حالما تجد الكتب مكاناً لها.
ليست مكتبتي (في هذه الحظيرة) بهيمة واحدة بل هي هجين من البهائم أخرى كثيرة، حيوان فانتازي يتركب من المكتبات العديدة التي بنيتها ثم هجرتها، المرة تلو الأخرى، طوال حياتي. لا أستطيع أن أتذكر وقتاً لم تكن لدي فيه مكتبة ما. مكتبتي الحالية نوع من السيرة الذاتية عديدة الطبقات، كل كتاب محتفظ باللحظة التي قرأتها فيه للمرة الأولى. الخربشات على الهوامش، تاريخ لقاء عابر على ورقة فارغة في بداية الكتاب، تذكرة الباص الحائلة التي أشرت بها إلى صفحة معينة لسبب أجهله في الوقت الراهن، جميعها تحاول أن تذكرني بمن كنته حينذاك. لكنها تخفق في معظم الأحوال. اكتراث ذاكرتي بي أقل من اكتراثها بكتبي، وتذكر القصة التي قرأتها ذات مرة أسهل علي من تذكر الشاب الذي قرأها وقتذاك.
إحدى أولى ذكرياتي (لا بد أن عمري وقتذاك كان سنتين أو ثلاثاً) هي رف كامل من الكتب على الحائط يعلو سرير طفولتي كانت مربيتي تختار منه قصة قبل النوم. كانت هذه هي مكتبتي الأولى، وعندما تعلمت القراءة بنفسي، بعد نحو سنة من ذلك، أصبح ذلك الرف ملكا لي عقب نقله الآن إلى ارتفاع آمن عن الأرض. أتذكر ترتيبي كتبي وإعادة ترتيبها بحسب قواعد سرية اخترعتها لنفسي: يجب وضع سلسلة الكتب الذهبية كلها في مجموعة وحدة، لا يسمح لمجموعات الحكايات الخرافية السميكة بملامسة الكتب بالغة الضآلة لـ(بياتريكس بوتر) يمنع جلوس الحيوانات المحنطة على الرف نفسه مع الكتب. قلت لنفسي إن أموراً رهيبة سوف تحدث إذا انتهكت هذه القواعد. التطير وفن المكتبات يتضافران في آصرة متينة.
تأسست مكتبتي الأولى في بيت في تل أبيب حيث كان أبي سفير الأرجنتين، مكتبتي الثانية كبرت في بوينس آيرس خلال مراهقتي. قبل العودة إلى الأرجنتين طلب أبي من سكرتيرته أن تشتري عدداً كافياً من الكتب لملء رفوف مكتبته في بيتا الجديد، نفذت أمره، فأرسلت في طلب صناديق كاملة من المجلدات لدى بائع كتب مستعملة، وعندما حاولت ترتيبها اكتشفت أن الكثير من المجلدات أكبر حجماً من الرفوف. لم تتورع عن قصقصتها لتصل إلى الحجم المناسب، ومن ثم تجليدها بجلد أخضر غامق أضفى لونه على المكان، مع اللون الغامق لخشب البلوط، أجواء غابة ناعمة. اختلست كتباً من تلك المكتبة لأوسع مكتبتي التي كانت تغطي ثلاثة جدران في غرفة نومي. كانت قراءة هذه الكتب المختونة تستلزم جهداً إضافياً للعثور على بديل للجزء المفقود في كل صفحة، وهو تمرين دربني من دون شك لكي أقرأ في وقت لاحق روايات (وليم بوروز) “المقطعة“.
مكتبة مراهقتي احتوت تقريباً كل كتاب لا أزال على اهتمامي به اليوم، أضيفت إليها بضعة كتب أساسية. أعانني على بنائها معلمون كرماء، وباعة كتب شغوفون، وأصدقاء كان إهداء كتاب بالنسبة إليهم تعبيراً بالغاً عن الحميمية والثقة. أطيافهم تخيم بلطف على رفوفي، ولا تزال الكتب التي أعطوني إياها محتفظة بأصواتهم، وهكذا حين أفتح الآن (حكايات قوطية) لـ(إبيساك دينيسن) أو (القصائد الأولى) لـ(بلاس دي أوتيرو) ينتابني انطباع بأنني لا أقرأ الكتاب بنفسي وإنما أسمعه يلقى على مسامعي. هذا واحد من الأسباب التي تفسر عدم شعوري بالوحدة أبداً في مكتبتي.
تركت كتبي ورائي عندما أبحرت إلى أوروبا 1969، قبل فترة من حكم الدكتاتورية العسكرية. وعلى ما أظن، لو كنت قد بقيت في الأرجنتين، كما فعل الكثير الكثير من أصدقائي، لتعين علي إتلاف مكتبتي خوفاً من مداهمات البوليس. ففي تلك الأيام الرهيبة كانت تهمة التخريب واردة لأتفه الأسباب، حتى إذا شوهد المرء ومعه كتاب مشبوه؛ اعتقل شخص أعرفه، بتهمة الشيوعية، لأنه كان يحمل معه رواية (الأحمر والأسود) لـ(ستاندال). اكتشفت السمكريون الأرجنتينيون أن هناك إقبالاً غير مسبوق على خدماتهم، لأن قراء كثراً حاولوا إحراق كتبهم في أحواض مراحيضهم فتصدع بورسلانها.
أينما استقر بي المطاف راحت مكتبة تكبر من تلقائها. في باريس وفي لندن، في قيظ تاهيتي الرطب، حيث عملت كناشر خمس سنين طوالاً (لا تزال آثار التراب البولينزي واضحة على نسختي من أعمال ملفيل)، في تورونتو وكالياري، كنت أجمع الكتب ثم أوسدها الصناديق عندما تأزف ساعة المغادرة، لتنتظر بفارغ الصير داخل المخازن الأشبه بالقبور يحدوها أمل بالقيامة لا يعول عليه. وكنت في كل مرة أسأل نفسي كيف حدث ذلك، كيف تكدس هذا الركام من الورق والحبر الذي سيغطي جدراني كاللبلاب مرة أخرى.
المكتبة القائمة الآن، بين جدران طويلة تحمل أحجارها في بعض المواضع تواقيع بنائي منازلها الفارهة في القرن الخامس عشر، آوَت، تحت سقف من عوارض خشبية تعرضت لتقلبات الطقس، بقايا تلك المكتبات السابقة كلها، بما فيها كتب من أولى مكتباتي تتضمن الحكايات الخرافية لـ(الأخوين غريم) في مجلدين، مطبوعين بأحرف قوطية الطراز تقبض النفس، ونسخة مليئة بالخربشات من (خياط غلوسستر) لـ(بياتريكس بوتر). ثمة بضعة كتب فقط سيعتبرها المولع الجاد بالكتب جديرة بالاهتمام: نسخة من الكتاب المقدس مزينة بالرسوم نسختها رهبان دير ألماني في القرن الثالث عشر، هدية من الروائي (يهودا إيلبرغ)، بضعة من كتب معاصرة معدة ككتب فنانين، بضع نسخ موقعة وأخرى من الطبعات الأولى. لكني لا أملك المال ولا المعرفة لأغدو مقتنياً محترفاً، وفي مكتبتي تجلس كتب (بنغوين) غضة الإهاب بريقها عائد إلى فرط الاستخدام، مسرورة جنباً إلى جنب مع كتب مخضرمة عابسة فاخرة التجليد.
ولأن مكتبتي, خلافاً للمكتبات العامة، لا تستلزم قواعد عامة يجب أن يفهمها القراء الآخرون ويتشاركوها، فقد رتبتها ببساطة تبعاً لما تقتضيه احتياجاتي وتصوراتي. ثمة منطق مضحك يحكم جغرافيتها. تتحدد أقسامها الرئيسة بحسب اللغة التي كتبت بها الكتب: أي من دون تمييز بين الأنواع، فجميع الكتب المكتوبة أصلا بالإسبانية، أو الفرنسية أو الإنكليزية أو العربية، تجتمع معاً على نفس الرفوف. أسمح لنفسي باستثناءات كثيرة على أية حال. بعض الموضوعات مثل الكتب عن تاريخ الكتاب، دراسات الكتاب المقدس، الروايات المختلفة لـ(أسطورة فاوست)، فلسفات عصر النهضة وآدابها، دراسات المثليين، كتب الحيوان القروسطية، لها أقسامها المستقلة. ثمة أفضلية لكتاب معينين: لدي آلاف من الروايات البوليسية مقابل قصص معدودة جداً من أدب الجاسوسية، مؤلفات (أفلاطون) أكثر من (أرسطو)، أعمال (زولا) الكاملة ويكاد يغيب (موباسان)، الأعمال الكاملة لـ(سينثيا أوزيك) و(جون هوكس) ولا شيء تقريباً لأي من المؤلفين على قائمة الأكثر مبيعاً في النيويورك تايمز. لدي العشرات من كتب رديئة جداً لا أتخلص منها، فقد تعينني ذات يوم إذا احتجت إلى مثال عن كتاب أحسبه رديئاً. الكتاب الوحيد الذي حظرت دخوله إلى مكتبتي كان رواية (بريت إيستون إيليس) مجنون أمريكي التي أحسست أنها قد أمرضت الرفوف بتوصيفاتها المهووسة بتعمد إيلام الآخرين. وضعته في سلة القمامة، لم أعطه لأحد لأنني لا أعطي كتاباً لا أحبه. كما أنني لا أعير الكتب. وإذا أردت من أحد أن يقرأ كتاباً اشتريت نسخة وأهديته إياها. في اعتقادي، إن إعارة كتاب تحريض على سرقته.
إن مكتبتي في نهاية الأمر، ككل المكتبات، ستفيض عن المساحة المخصصة لها. فبعد انقضاء قرابة سبع سنين على إنشائها وصل امتدادها إلى صدارة المنزل التي كنت آمل بإبقائها خالية من رفوف الكتب. كتب الرحلات، وكتب عن الموسيقى والأفلام، وكتب مختارات متنوعة الأشكال تغطي الآن جدران غرف عديدة. رواياتي البوليسية تملأ واحدة من غرف نوم الضيوف، وتعرف الآن باسم مألوف هو غرفة الجريمة. ثمة قصة لـ(خوليو كورتاثار) هي (المنزل السليب)، وفيها يضطر أخ وأخت إلى الانتقال من غرفة إلى أخرى لأن هناك شيئاً لا يسمى يحتل منزلهم برمته شبراً بعد شبر، ويرغمهم في النهاية على الخروج إلى الشارع. أتكهن بأن كتبي، على غرار ذلك الغازي المجهول الاسم، ستتم اجتياحها التدريجي ذات يوم. سأكون آنئذ مطروداً إلى الحديقة، ولأنني أعرف مسلك الكتب، فما أخشاه هو أن ذلك المكان بأمانة الظاهري قد لا يأمن طموح مكتبتي الجائعة.